لم يعد الغياب موجعًا

734

 

بقلم/ دعاء محمد

 

خطوات قليلة كانت تفصل منزلنا القديم عن مدرستي، بالكاد تقطع مسافتها في خمس دقائق فقط، إلا أنها كانت الأسوأ في يومي. صباحًا توقظني أمي معلنة موعد الرحيل، أستجيب لنداءاتها بالبكاء، ليس كرهًا في العلم كما زعموا كثيرًا، بل لتجنب وِحدتي خلال تلك الدقائق.

 

بعد مرور أسبوع على انضمامي للصف الأول الابتدائي، عدت إلى البيت وقررت أن يكون اليوم هو الأخير، فقُلت لأبي: “مش هروح المدرسة تاني.. أنا عرفت كل حاجة خلاص!”، حدّق بي قليلًا ثم تساءل: “يعني إيه؟”، فأجبت بجدية وثبات: “بكتب من ا لـ100، والحروف كلها، واتعلمت أكتب اسمي كامل و…” قبل أن أتم حديثي، كان الضحك يملأ الغرفة، كرد منطقي على هذا العبث.

 

كنت أتعجل معرفة كل شيء لكي أنهي دراستي، ولا أسلك أي طريق بمفردي. ثمة تغيير طرأ، فتَّشتُ عن صديقة ترافقني خلال رحلتي القصيرة، ووجدت واحدة فقط اسمها “مروة”، ما زلت أذكرها، كانت صاحبة شخصية متسلطة، ولكني أحببتها حتى لا أسير وحدي، تغاضيت عن كل ما يرهقني في علاقتنا. حينما كانت تغيب أشعر أنني تائهة، يطول الطريق على غير العادة، أخشى مرضها وغيابها وأي مكروه قد يصيبها، ليس حبًا ولكن الغياب يوجعني.

 

عام تلو الآخر يمر، والعُقدة ذاتها ترافقني، أبحث عن من يسير معي أولاً والبقية تأتي، أو لا تأتي، لا يهم. كنت أجلس في محطة المترو، أراقب القطارات وهي تفرغ ما بجوفها من ركاب، ثم تبتلع آخرين وترحل، وأنا وحدي على المقاعد، كسيدة لم تبرح مقعدها في دار مسنين منذ عام، تحسبًا لقدوم أحد أبنائها. يمر الوقت وعيناي معلقتان بالساعة المتدلية من سقف المحطة، أمسك هاتفي، وأخبر صديقتي المتأخرة أنني سأرحل، ولكني لا أفعل، أعاود الاتصال والتهديد ذاته كل بضع دقائق.

 

مرت سنوات الدراسة ومع الأشهر الأولى للعمل، بات الانتظار موجعًا، ولكن بقيت على حالي، أكره الانتظار وأملُّ منه دون أن أتراجع عن تلك العادة. في العام نفسه بدأت قصة حب هي الأولى في عمري، فانتظرت كثيرًا، حتى خاب الظن وكان الغياب بلا رجعة، ربما كنت أنتظره للعلة ذاتها “خشية الوحدة”، لا أدري، ولا يهم، انتهت القصة وتعلمت الدرس على كبر.

 

كطفلة في رحم أمها لا تريد أن تبرحه، أصبحت هكذا. بات الضجيج يزعجني، أفتش عن لحظات الوحِدة، أغمض عينيَّ، أصمت، أفكر، أحاور ذاتي وأطيل عمر الوقت قدر ما استطعت. ينقضي اليوم وأترك عملي دون أن يشغلني من يرافقني في رحلة الإياب، ففي الطريق أقصّ على نفسي أحاديث تمنيت كثيرًا أن أوثقها، ثم أعود إلى غرفتي، التي تلتقطني كحوت يونس، فيها تصبح نفسي مطمئنة راضية.

 

لا أدري منذ متى تبدّلت الحال، فالصغيرة التي كانت تختلس لحظات كي تجمع قطع الملابس الملقاة على الأرض، وتضعها على بطنها، ثم تنظر في المرآة وتضحك وهي تبصر نفسها كسيدة أوشكت أن تضع حملها، ما عاد حلم الأمومة يراودها، ليس هذا وحسب، بل القبول بالشريك أصبح مرهقًا. نعم، أخاف من غرباء يقتسمون معي أوقات وحدتي، أخشى وجودهم في غرفتي، أتجنب انتظارهم.

 

لا أدري منذ متى تبدّلت الحال

 

المقالة السابقةمن أنتِ من شخصيات “ِشيخ جاكسون” النسائية؟
المقالة القادمةعفوًا “عبد المجيد”.. أنا مش “ذات”
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا