(١)
لم أكن قد تجاوزت العاشرة من العمر حين مررت أنا وأمي في طريقنا لبيت جدتي في حي مصر القديمة، وكنا في رمضان حينها، بأسرة افترشت الشارع، واختارته مسرحًا لإعداد كعك العيد، وقفت أراقب فتاة كانت في مثل سني تقريبًا، وهي تساعد مجموعة من السيدات، ربما هن أمها وجدتها وبعض من نساء العائلة، وملابسها غارقة في العجين ووجهها وشعرها يكسوهما الدقيق، التفتُّ لأمي التي شدت قليلاً على يدي تحثني على استئناف السير، وسألتها:
- ماما إحنا ليه مش عايشين هنا؟!
(٢)
مات جدي، والحقيقة أن أمي تُفضِّل أن نبقى أنا وأختي بعيدتين عن مراسم الدفن والعزاء، بعد يومين قررت أن أذهب، كنت أخشى كثيرًا من مواجهة الحزن في عين جدتي، ولكن مصر القديمة احتوتني، شيء ما بدد مخاوفي، جعلني أشعر بأنني أتنفس على نحو أفضل، الابتسامات في وجوه الناس ربما كانت السبب، عفويتهم، ما كان يتبقى في الشوارع من مظاهر استقبال رمضان، رائحة الشوارع نفسها، وجدتني أتذكر سؤال الطفولة، وأفكر.. ماذا لو كانت كل شوارعنا بهذا الحنان؟
لا شيء يخبر بأن أحدهم كاتبٌ بارع، إلا قدرته على أن يجعلك مرتبطًا بشخوص حكاياته، أن يخلق لك عالمًا تعيشه بكل تفاصيله وكأنما أنت جزء منه. هذا بالضبط ما نجح فيه المؤلف أحمد عبد الله، وساعده فيه المخرج سامح عبد العزيز.
الحقيقة أن التعاون بين عبد الله وعبد العزيز، كان مثمرًا بطول أعمال كثيرة جمعتهما معًا، كان أولها فيلم "كباريه" الذي عُرض عام ٢٠٠٨، والذي تبعه عدد من الأعمال الناجحة والمختلفة بل والصادمة في بعض الأحيان، وصولاً إلى "رمضان كريم"، وبقدر ما يبدو المسلسل سلسلاً، بغير دراما متكلفة ولا حوادث تُرهق المتابع في فك طلاسم أسبابها وتوقع نتائجها وانعكاساتها، لكنه يضعنا في مواجهة مع قضايا النفس البشرية، ويأخذنا في رحلة لكواليس الحياة في الحي الشعبي، حيث هي مصر الحقيقية.
أول ما دفعني لمشاهدة المسلسل كان صورة روبي تتصدر بوستر المسلسل في أحد إعلاناته على الطريق الدائري، وروبي التي يبدو لي أنها لا تكبر أبدًا برغم نضجها الذي يبرز عملاً بعد آخر، تمثل الكثير لجيلي الذي انتقدها طويلاً في أول ظهورها ثم وقع في حبها بغير مقدمات، لكني اكتشفت بعدها أن روبي ليست وحدها، وأن لفيفًا من الفنانين على رأسهم سيد رجب يتقاسمون ظهورًا رائعًا في مسلسل يبدو أنه ليس له بطل.
تدور أحداث المسلسل في واحدة من المناطق الشعبية، ويبدو للوهلة الأولى أن الأحداث ستتمحور حول عائلة "رمضان" أو الفنان سيد رجب، لنكتشف بعدها أننا معنيون بكل المواقف التي تحدث للجميع، والتي تتناول موضوعات مختلفة، من بينها أزمة تجهيز الفتيات للزواج، الخيانة الزوجية، أزمات الديون، وغيرها الكثير من القضايا التي تمس هذه الطبقة.
بطول ثلاثين حلقة، لن تشعر كمتفرجٍ بالملل أبدًا، لأنه في كل حلقة، هناك حكاية أو أكثر سترغب في متابعة تطوراتها، لأن الأحداث لا تسير في الخط الدرامي المعروف، فتتأزم الأمور فجأة ثم تنفرج بنهاية الحلقات، وإنما نحن في كل حلقة نتابع كيف تتعقد الأمور في أحد بيوت الحارة، وكيف تزداد تعقيدًا في آخر، بينما تنتهي أزمة في ثالث.
"رمضان كريم" كان مباراة تمثيلية أظهر فيها الجميع براعة، بداية من سيد رجب الذي لعب دور الأب الذي يحاول الوفاء باحتياجات أبنائه، في الوقت الذي تُسمع فيه كلمته في "الحِتة"، وهو الدور الذي يختلف تمامًا عن شخصيته في مسلسل "فوق مستوى الشبهات" الذي شارك فيه النجمة يسرا رمضان الماضي، مرورًا بباقي الممثلين، الذي كان بعضهم مفاجأة لي، كنجلاء بدر التي خرجت من عباءة دور الزوجة الخائنة، ومحمد مهران الذي أبدع في لعب دور الشاب صاحب الحالة الخاصة، الذي ترفضه الفتاة التي بادلته الحب هاتفيًا بعد أن عرفت حالته.
"رمضان كريم" عملُ يناسبك إن كنت تشتاق لأحد مسلسلات التسعينيات، بمحتواها الاجتماعي، وشخصياتها المُختارة بعناية، وحديثها الصادق العفوي.. لا تشاهد أكثر من حلقة واحدة في اليوم، ولا تفوت على نفسك متعة الارتباط بالمسلسل.