لمياء وتفاصيل الوحدة والونس

1087

مر عامان على لقائنا الأول في الأرض الطيبة كاترين، مر عامان على أول حضن.

 

حين سألتها ما اسمك؟ قالت: “أنا لمياء.. هاتي حضن”.

احتضنتني بدفء وحب بالغين، لا أعرف إن كان أشبه بحضن أم صديقة، لكنه بالتأكيد كان كفيلاً لجبر الخاطر.

هنا -حقيقةً- فهمت معنى جملة أمنا الروحية رضوى عاشور: “وقد يبعث الله من يحتضنك في قلبه كوطن صغير”.

هذه المبتسمة الجميلة لديها ابنة تصغرني ببضعة أعوام، ربَّتها بمفردها بعد أن انفصلت عن زوجها، وهي نفس ابتسامة الاحتفال بعامها الخمسين.

 

سألتها كيف استطتعتِ تربية ابنتك بمفردك؟ بنفس الابتسامة أخبرتني “أنا بنتي اللي ربتني”. تركت “لمياء” لابنتها “بنان” المساحة التي سمحت لكلتيهما أن يتغلبا على الصعاب معًا.

 

انفصلت “لمياء” عن زوجها بعد محاولات عديدة لإنقاذ هذا الزواج المدمر، ككثير من النساء اللاتي عانين من عدم تحمل أزواجهن للمسؤولية. ما أقسى أن تكون المرأة متزوجة من شخص هو في الحقيقة غير موجود معنويًا، وفي حالة “لمياء” ماديًا أيضًا! إذ لم يكن يعمل بصفة مستمرة، ولم يتضرر إطلاقًا من إهدار آخر ما يملك على السجائر بدلاً من شراء الحفاضات لابنته.

 

ولما اختارت الطلاق لمحاولة بدء حياة أفضل لها ولابنتها، اصطدمت بالمجتمع الذي لم يمنحها هذه الفرصة لتحيا بسلام. تقول “لمياء” وهي تحكي عن التنمر الذي كانت تتعرض له كمطلقة: “الناس كانت بتتعامل معايا على إني مش من حقي أختار لأني مطلقة، فلو راجل جاي يتقدملي وحس بقبول بيبدأ يتكلم عن التفاصيل من غير ما يعرف أنا أصلاً موافقة ولا لأ، على اعتبار إن دي فرصة مش هتتكرر، مش بس كده، حتى بعض الناس من أصحابي كانوا بيقرروا إذا كان ممكن أطلع معاهم رحلة ولا لأ، يعني الرحلة ممكن تكون مش منسباني ماديًا فميقولوش أصلاً، على اعتبار إني كده كده مش طالعة، بدل ما يقولوا مثلاً ويدوني فرصة الاختيار، والبعض كمان قطع علاقته بيَّ خوفًا على أزواجهم. وحكاوي كتير اتعرضت ليها لمجرد إني مطلقة”.

 

سألتها أيضًا عن مدى تأثر ابنتها بهذا الطلاق، فأخبرتني أن أباها كان يساهم في مصاريف المدرسة، حتى قررت أن تنقل ابنتها لمدرسة دولية، فتوقف عن المساهمة تمامًا، من هنا قررت “لمياء” أن تستثمر كل ما لديها في تعليم ابنتها، ولكن الغريب حقًا أن ابنتها في أول مواجهة لها مع أمها، أخبرتها أنها لم تحيا حياة سوية، وأنها قصرت كثيرًا في إعطائها ما تتمناه، وأن مستواها دائمًا كان أقل من زملائها في المدرسة، في الوقت الذي كانت “لمياء” ترى أنها وفت كل متطلباتها المادية. ولولا ردة فعل “لمياء” في هذا الموقف لخسرتها للأبد.

 

لذا احتوتها، كانت تعلم أن الأبناء لا يقصدون الإيذاء، هم يتألمون ويعبرون عن ألمهم دون معاينة الكلمات، ومع النضج، تتغير الحال ويتغير الأبناء أيضًا، فالنضج يشملنا ويشملهم. حكت لي أن في عيد الأم عندما لم ترسل “بنان” إليها رسالة حدثتها “لمياء” وقالت لها: “مقولتليش كل سنة وإنتي طيبة”، فقالت بنان: “كل سنة وإنتي طيبة يا ماما”.

هكذا بكل بساطة، ولا يستدعي الأمر مزيدًا من التوتر. 

 

“بنان” الآن مُقدِّرة تمامًا كل الذي بذلته أمها من أجلها، وأرسلت لها برسالة تلخص كل هذه المشاعر:

MY MOTHER IS MY FATHER TOO.

“لمياء” الآن تغيرت بفضل ابنتها، وأخبرتني أنها غيرت طريقة دعائها لها، قالت: “بقيت بدعيلها باللي نفسها فيه، مش باللي نفسي فيه”.

 

كل ما سبق كان صعبًا حقًا، وتجربة مؤلمة، ولكن الأصعب الآن هو الشعور بالوحدة، وقد لمستُه حقًا في موقف حدث بيننا، عندما عادت “لمياء” من رحلة لكوريا، تحدثنا واتفقنا على لقاء تحكي لي فيه عن تجربتها هناك، تقابلنا، بالفعل وكانت متحمسة جدًا وسعيدة لما رأته ومرت به في هذه الرحلة، لم ألتمس أي شيء غريب، حتى انتهى اللقاء وحان موعد الرحيل، سلمت عليَّ واحتضنتني كالعادة، ثم انفجرت في البكاء.

 

لم أسألها عن السبب، وطلبت منها أن تأتي معي إلى البيت لنقضي ليلتنا معًا ونؤنس بعضنا بعضًا، فلم تتردد. كنت أعلم تمامًا ما تشعر به، لأني قضيت الكثير من عمري وحيدة.

أنا و”لمياء” حاربنا الوحدة بكثرة الدوائر والفاعليات والمناسبات ونمط الحياة السريع، وكان ينجح كثيرًا هذا الأمر، ولكنه لا ينهي الشعور بالوحدة بشكل كامل، فهناك مثل تلك الليالي الباردة الموحشة التي تحتاج إلى حضن من محب.

 

“لمياء” أخبرتني أنها كانت تتمنى أن ينتظرها أحد في المطار، أو أن تعود إلى البيت لتحكي عن رحلتها بشغف بدلاً من أن يردها الصدى. هذا بالإضافة إلى الاحتياج الجنسي الفطري، والذي لم يكن أمامها سوى الاتجاه لمزيد من النشاطات مثل اليوجا والكورسات وورش التمثيل والسيكودراما والجيم والقراءة لمحاربته أيضًا، تقول “لمياء”: “طبعًا الاحتياج ده قل مع كبر السن، وبقى الاحتياج الأكبر هو المشاركة. حد أشاركه حياتي وتفاصيل يومي وأتكلم معاه. لأني لو دلوقتي قادرة أملأ يومي ومسبش وقت فراغ للتفكير وصحتي مساعداني.. بكرة أكيد مش هيبقى نفس الوضع!”.

 

الوحدة سرطان النفس، وعلاجها الأنس. لذا ربما علينا أن نبحث عن هؤلاء الذين تأكلهم الوحدة، ونداوي جروحهم بالأنس اللطيف، الذي لا يعني تدخلاً يجبرهم على العزلة.

“لمياء” حوَّلت محنتها لطاقة نور، ورغم كل ما مرت به وما زالت، لكن ابتسامتها لا تفارق وجهها أبدًا، قالت لي “مينفعش أفضل حاصرة نفسي في دور الضحية، كان لازم أتحرك عشان أكسر دايرة الحزن ومنقلهاش لبنتي، وعندي نصيحة لكل الأمهات: بطلوا تلوموا ولادكم لأن اللوم والعتاب مرهق وبيكسر النفس، أنا من ساعة ما بطلت ألوم بنان هي بطلت تخبي عليَّ حاجة أو تخاف تلجألي لو فيه مشكلة.. عشان كده بقولك بنان هي ربتني وهي اللي غيرتني“.

 

لقد حاولت أن أنقل جزءًا من صراعات “لمياء” كامرأة مصرية مطلقة معيلة في مجتمع ذكوري. “لمياء” مثال حي لكثير من النساء اللاتي استطعن الصمود وحدهن أمام المحن وقسوة المجتمع.. ولكن يبقى السؤال الأهم الذي يشغلها حاليًا هو:

ماذا بعد؟!

المقالة السابقة“البُعد ذنب كبير لا يُغتفر”.. قصص زوجات وحيدات
المقالة القادمةماذا تُعلِّمنا مشاهد موت الأب في أفلام الكارتون؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا