لست مثالية.. ولن أكون

2366

قالت له قبل أن تنتهي من قهوتها وترحل: “سأخبرك بشيء أخير في هذه الليلة الممطرة بسخاء.. لست قاسية ولكن جانبي الرائع أخفيه للرائعين فقط، أما الجانب الآخر لا أخفيه.. من يطلبه له ما يشاء”.

في يوم من ذات الأيام كانت بطلة حكايتي فتاة مهووسة بالمثالية والكمال، ترغب في أن تكون تلك الصديقة الموجودة دائمًا حتى وإن لم يكن أصدقاؤها كذلك لها، وتلك الحبيبة المتفانية حتى وإن كانت داخل علاقة سامة مؤذية، وتلك الكاتبة العظيمة التي لا ينقطع عنها الإبداع ولا ترفض ضغط العمل مهما زاد، حتى وإن كان يحمل في طياته استغلالاً لإبداعها، فكاد ينضب النبع بفعل الروتين. كانت كذلك حتى صارت في النهاية وحيدة.. وحيدة جدًا رغم مثاليتها المفرطة، فلم يرها أو يشعر بها أحد.

***

خذلان..

“في الأوقات الصعبة.. حيث الكثير جدًا من الخذلان الممزوج بالأنانية.. لا تجزع ولا تعاتب.. فقط أخبر الله بكل شيء.. من أعمق نقطة وجع بقلبك.. فهو يسمع ويرى”.

ربما تصلح الكلمة السابقة عنوانًا لفيلم سينمائي عن الوجع والإحباط والعلاقات البائسة، ولكن هذا الفيلم في حقيقته القاسية كان تجسيدًا لحياة بطلة حكايتي، خذلها الحبيب ليبحث عن المثالية في شكل آخر، وكذلك من ظنتهم أصدقاءها، فأصبحت نسخة أخرى تُقدِّر حق نفسها بشكل يبدو قاسيًا جدًا للبعض، أخبرتني بهدوء لا أحسبه مصطنعًا: “لقد شُفيت من مرض المثالية، ببساطة أنا لم أعد أهتم. لم أعد من اللطفاء دائمًا، ولم أعد أهتم للآخرين أيًا كانوا، لا نصائحهم، ولا آراءهم، ولا ردة أفعالهم وانطباعاتهم تجاهي. أنا ببساطة صرت أولوية نفسي. كل كلمة تخرج من فمي باتجاه أحدهم أعنيها تمامًا، أعني وقعها وتوقيتها وأثرها، فالأثر الطيب للطيب والخبيث له أيضًا ما يشاء.

يمكن الآن المغادرة لأي شخص داخل حياتي متى أراد بإرادته الحرة، الباب سيوصد خلفه دون مواربة، ولن أعود أهتم أو أبكي وأضرب الأرض بقدمي غضبًا، كل معاملة سأحصل عليها سأردها بالمثل، وكل عبارة توجَّه لي يحصل صاحبها على عبارة مماثلة تمامًا. لا مجال لترميم علاقات بالية مهترئة وليست هناك فرص أخرى لمن استنفد رصيده كاملاً”.

كنت مبهورة بحديثها بتلك الثقة الرهيبة التي اكتسبتها من أعمق نقطة وجع بقلبها الكبير، الذي لم يعد يتسع للجميع كما كانت. لقد شُفيت من ذلك الفخ الذي وقعت فيه أنا وغيري، حتى صرت حقًا مكتسبًا للجميع ولا حق لي في نفسي على الأقل.

***

“ما ينتهي ببطء لا يعود بسرعة.. لا يعود أبدًا”.

وجدتني أردد هذه العبارة لـ د. أحمد خالد توفيق بصوت مسموع بعد أن أنهت حديثها معي، لقد شُفيت بطلة حكايتي من وهم المثالية ببطء.. ببطء يجعلها لن تعود لتكرار تلك التجربة أبدًا.

أتذكر أنني أيضًا قلبي لم يعد كالسابق، وعقلي كذلك. هذا ما أدركه الآن، الحقيقة المؤلمة المريحة في آن واحد أنني كبرت بما يكفي لتصبح العبارة السابقة تمثلني في كل شيء.

تلك الصداقة التي انتهت بفعل الملل.. لن تعود مرة أخرى.

لم يعد في العمر متسع للتهوُّر واللهاث وراء اللا شيء بدافع المثالية والكمال وإرضاء الجميع.

ولم أعد تلك الفتاة المندفعة التي فور أن تهدأ ثورتها تضحك بطفولة وتنسى كل شيء وكل ألم. المؤسف أنني أصبحت أمتلك ذاكرة فولاذية بدلاً من ذلك، تغفر ولا تنسى، وأحيانًا لا تغفر أيضًا.

لم تعد أنصاف الحلول ترضيني، لم يعد عقلي يتقبل سوى المنطق والحلول الجذرية.

قلبي صار خاليًا تجاه ما لا يعنيني. أحيانًا أحزن لأنني لا أستطيع إعادة ملء مخزون المحبة للبعض، فأتذكر أنهم هم من أفرغوه نقطة نقطة ببطء متكرر، حتى صارت عودته مستحيلة، فأهز رأسي بهدوء مرددة “وليكن” على الأقل حاولت.

***

“لن أكون مثالية بعد الآن”.

كان هذا قراري الواضح لعامي الثلاثين الذي على وشك إتمامه.

أنا هي أنا، لا تحتمل طباعي اللون الرمادي ولا تكن ردة فعلي سوى أبيض ناصع أو أسود صريح.. وعليك الاختيار بماذا ترغب.

كان وهجي فيما مضى شمسًا تضيء أكوانًا بأكملها، ولكن في كل مرّة أوشك على الانتهاء من شيء جميل جدًا، أجد نفسي الأكثر حماسة في مواجهة تماثيل شمع متقنة الصنع، تستبيح طاقتي وقلبي وعقلي دون خجل أو تقدير، وفي كل مرّة مددت يدي ليتشبث بها حبيب على وشك السقوط، كان ينجو فيفلت يدي بقسوة غريبة تخترق قلبي فتثقبه. وفي كل مرّة اخترت العقل رغم جنوني والتسامح رغم براعة شياطيني، كنت أتلقى صفعة أنانية تُخرِج أسوأ ما في وأروع ما في معًا.

حتى ماذا؟

حتى صار قراري واقعًا أعمل عليه، عباراتي حادة صريحة ومباشرة، شمسي نارًا تحرق لا تضيء، وصار قلبي خاليًا كبيت مهجور أتقن ساكنوه الغياب المُدبَّر. أنا هي أنا ولا يهمني أبدًا أن أكون مثالية أو كيف تريدني أنت أن أكون.

المقالة السابقةاغتسل من ذكرياتك.. إن استطعت
المقالة القادمةسيدة الصبر
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا