كيف تحب الأمهات؟

680

مفتتح

أنا إنجي. أم منذ عام وأربعة أشهر.

متن

كنت طوال عمري أثور على أمي عندما تتحدث عن البشر٬ كل البشر تراهم طيبين ويمارسون الشر تحت ظروف قهرية٬ كلهم غلابة وكلهم تشفق عليهم٬ عندما تحب أحدًا ما تسامحه على طول الخط٬ ترى كل الأبناء غاليين ويستحقون كل الحب، حتى لو كان هؤلاء الأبناء يحملون تراب الأرض عيوبًا لا تطاق. كل البشر في عينيها يستحقون الحب والشفقة والطبطبة والتفهم والمسامحة.

كنت أرى أنها سذاجة زائدة٬ وترى هي أنها أحد الأعراض الجانبية للنضج والأمومة٬ تقول دومًا “لما تبقي أم هتعرفي”٬ والآن أنا أكتب هذا المقال لأقول إنني عرفت.

مداخلة

أعرف عيوبي كلها٬ كما أعرف مزاياي أيضًا٬ إحدى مزاياي الكبيرة -دون غرور أو تعالٍ- هي أنني إنسانة طيبة٬ أعرف أنني طيبة٬ رغم صوتي العالي وعصبيتي وسخريتي الدائمة٬ أعرف أنني من البشر الطيبين٬ ولكنني لم أكن أعرف أنني رحيمة.

باقي المتن

الرحمة تختلف عن الطيبة، وتختلف قطعًا عن الحب. الرحمة تمنعك من أن تجرح البشر٬ تمنعك من أن تخونهم٬ تمنعك من استغلال نقاط ضعفهم٬ تمنعك من أن تكون شخصًا سيئًا في المجمل. الحب لا يفعل ذلك٬ يمكنك أن تشعر بالحب وأنت شرير، ولكنك لن ترحم وأنت شرير.

الأمومة بإمكانها أن تمنحك هذه الرحمة إذا كنت شخصًا طيبًا من الأساس٬ دون أن تكون طيبًا أنا لا أضمن النتائج، ولكنني أعرف تأثير الأمومة في قلوب الطيبات٬ كنت قد جربت من قبل أن أخوض صراعات وأخسر أشخاصًا وأتعرض للأذى والإساءة٬ أنا اختبرت العالم القاسي من كل أوجهه٬ كنت رغم طيبتي أستطيع أن أكره وأجرح وأتخيل سيناريوهات أقتل فيها السيئين الذين قابلتهم في حياتي٬ وكنت بسهولة أنزع من أحبهم من قلبي إذا تعرضت لأي إساءة منهم. ولكنني كففت عن كل ذلك بالضبط منذ عام وأربعة أشهر.

جربت أن أخسر صديقتين منذ سنوات٬ أعتقد لو حدث ما حدث الآن بعد أن أصبحت أمًا لم أكن لأخسرهم. جربت أن أكره إصرار أم أعرفها والمعافرة مع ابنها المدمن الذي يخرب كل شيء٬ بسهولة شديدة كنت أرى أنها يجب أن تودعه السجن ليتربى. جربت أن أرى غباء الآخرين وأُجرِّمه٬ الأسوأ أنني كنت أصارحهم بغبائهم طوال الوقت دون أن يطلب مني أحد ذلك٬ وجربت أن أرى لوعة فراق أم عن ابنها المسافر دلعًا ما دام يبني مستقبله. كففت عن كل هذا منذ عام وأربعة أشهر.

الأمومة جعلتني أرحم٬ بروَزَت طيبتي وجعلتها تتحكم في قلبي تمامًا٬ ما أشعر به تجاه طفلي وهو نائم أو وهو يحاول أن يفعل شيئًا ما٬ أو عندما يستنجد بي لأنقذه من ورطة وضع نفسه فيها وسط ألعابه ليس حبًا٬ أعرف أنه رحمة.

مشاعري تجاه صديقتي التي سامحتها بعد سنوات، والتي عادت لتحتل نفس مكانتها القديمة في قلبي وتفهمي لموقفها، هي رحمة تحكمت في حبي لها فجعلته يغلب الغضب. مشاعري تجاه قريبتي التي جرحتني وأساءت لي ثم اعتبرت أنني سامحتها عندما تصافينا هي رحمة٬ جعلتني أنسى قراري بأن أنتزعها من مكانتها المميزة وأجعلها عادية. بكائي مع قريبتي التي كنت أرى لوعتها على ابنها المسافر دلعًا هي رحمة. “أوبشن” الرحمة لم يكن مُفعَّلاً في نظام قلبي٬ وقد ضغطت الأمومة الزر بمنتهى البساطة ليتم التفعيل٬ وأصبح أكثر ضعفًا وقوة في نفس الوقت.

الأمهات يحببن برحمة شديدة. بالطبع يستلزم الأمر صفات أخرى كي يستطيع القلب أن يشعر بتلك الرحمة ولكنها موجودة في كل القلوب الطيبة٬ الأمومة تبرزها فقط٬ هذه الرحمة كي ما تجعل قدرتك أكبر على تحمُّل حماقات من تحبينهم٬ سوف تحافظ على مكانتهم في قلبِك عندما يخطئون٬ سوف تجعلك أكثر قدرة على المسامحة وعلى تفهم أن الحب وحده لا يكفي لاستمرار العلاقات، وأنكِ تحتاجين للتغافل والغفران كي يظلوا في حياتك٬ لأن قلبك لن يتحمل خسارتهم.

الرحمة تجعلك تتعملقين٬ فينبت لك جناحان ضخمان يُمكِّنانك من أن تحيطي مَن تحبينهم وتحافظين عليهم رغم أنك غاضبة منهم٬ سوف تجعل عقلك أهدأ وقلبك أكبر. نعم سوف تشعرين بالضعف أحيانًا لأنك ربما تُخطئين وترحمين من لا يستحقون الرحمة. ولكن الميزة هنا أن الله سوف يرحمك كما ترحمين الناس٬ فلن يجعلك تتأذين حتى لو أخطئت ووجَّهتِ رحمتك وحبك لمن لا يستحقونهما.

كنت دومًا أرى الله رحيمًا٬ أعرف أنه عادل لكنني كنت أشعر بقلبي أن رحمته ستغلب كل شيء٬ والآن أنا أكثر يقينًا في تلك الفكرة٬ لو أن الله يحبني ويرحمني مثلما أشعر بالرحمة تجاه طفلي فأنا أعرف يقينًا وبشكل قاطع أن تلك هي أفضل العوالم الممكنة٬ وأن أقداري كلها -حتى تلك التي تذمَّرت وسأتذمر منها- هي منتهى الحب وأقصى درجات الخير.

خاتمة

أتذكر منذ سنوات وجدت صديقة على فيسبوك تضع جملة “حبك شال الأنانية خلى مكانها الحنية”٬ وقتها كانت أمًا لطفل، وكنت أنا لم أفكر في الإنجاب بعد. دخلت سألتها “حاسة إن الكلام ده موجَّه لابنك.. تفتكري بيحصل في كل الحالات؟ تفتكري فعلاً حب الأبناء ممكن يعمل ده في كل القلوب؟”، والآن وبعد سنوات أجيب على نفسي أن نعم هو يفعل ذلك٬ ولكنه لا يفعله إلا بالقلوب الطيبة.

اقرأ أيضًا: أول مرة أمومة: كيف أصبح قلبي أكبر من العالم؟

المقالة السابقةمارس شهر القوة والحب
المقالة القادمةحتى أنت يا بروتوس
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا