كل الأشياء السيئة لا بد لها من نهاية

563

لا أحد يستطيع أن يُشْعِرك بالدونية دون موافقتك، لذا لم أحصِ كم مرة وافقتُ فيها أن أكون ضحية للأذى قبل أن أرفع يدي على كبَر معلنة: “كَفَى”.

 

منذ انكسرت مرآتي للمرة الأولى، لم أرغب بمرآة غيرها ككل الفتيات، انكسرت واستسلمت لصورتي الجديدة وذاتي المشوهة عن نفسي، فلم أستيقظ كل يوم لأرى حجم التشوه الذي أصابني. انكسرت مرآتي ولم تعد أبعادها كما هي، أنظر من بعيد أو من قريب، لا تعكس شيئًا من ملامحي.

 

أصابها سرطان الزجاج المشهور ذاك. وبنفس ضبابية الصورة أنقل سرطاني معي حيثما أسير، بنفس أكوام الزجاج المدببة السن، الغائرة في قلبي دون نقطة دم واحدة.

هذا ما حدث بعد سلسلة من الأذى، لذا أشعر أن الحديث عن التنمر لم يعد مجديًا، كلنا تعرض له في الصغر دون أن يدري شيئًا عن هذا المصطلح، كلنا بشكل أو بآخر تعرضنا للتنمر، بعضنا قابَل الطيبين الذين وقفوا بجانبنا ودعمونا، وبعضنا غارق في ذاته المشوهة من أعلى رأسه حتى أخمص قدمه.

 

سأسرد البعض وليس الكل مما تعرضت له، بداية من بدانتي وجسدي الكبير مقارنة بأقراني، ثم اسم عائلتي الذي كان محط سخرية الكثيرين. كنت صغيرة جدًا حين سمعتها لأول مرة ولم أفهم معناها “إنتو عيلة إرهابية”، كنت ضعيفة قبل أن أدرب نفسي كيف أقولها بنبرة واثقة، أنها نفس العائلة التي أنجبت أكبر الأطباء على مستوى العالم في كل التخصصات.

 

مرورًا باليُتم الذي جعل من حياتي مشاعًا للآخرين، حيث كنتُ ألقى انتقادات وتهكمات من المقربين قبل الأغراب، تهكمات على شكلي وتصرفاتي وملابسي بشكل مكثف ومستمر، والغريب في الأمر أني حين صرختُ “كفى” ورفعت يدي بجدية تامة أني لن أسمح بهذا التدخل أو التهكم على حياتي، تحولت من ضحية لمجرمة سليطة اللسان، إذ وقفت في وجه الكبير الذي اعتاد إلقاء الأوامر على كل أبناء العائلة نظرًا لمكانته الخاصة في قلوبهم، ورغم أني أُكِنُّ له نفس هذه المكانة في قلبي وأحبه مثلهم فإن رفضي للتنمر لم يجعلني أحظى بنفس الحب والاهتمام؛ كان لا بد من التضحية بهذا الحب حتى أعيش بحب نفسي لا بكرهها.

 

تحاشاني البعض وما زلت أحْمِل نفس الوصم حتى الآن.

لم أشعر للحظة أن سلسلة التنمر توقفت، لا حين مرضتُ مرضًا جسديًا ولا حين مرضتُ مرضًا نفسيًا، لم أكُنْ قط واحدة من هؤلاء الذين يحبون لفت الأنظار، بل على العكس تمامًا، كثيرًا ما كنت أحب الاختفاء لأني أكره جسدي جدًا، وكلما مررت بمحنة تجنبت الاحتكاك بالبشر، وأعتزل مدة ليست بهينة قبل أن أعود بعدما ألتقط أنفاسي وأستعيد اتزاني النفسي.

 

أخبرتني “زهراء” صديقتي أنني لا أترك لهم فرصة كي يقفوا بجانبي ويدعمونني كما هي عادات الأصدقاء. لطالما مَنَّ الله عليّ بالكثير من هؤلاء الأصدقاء الذين تمنوا أن يقفوا بجانبي في كل محنة مررت بها، لكنني آثرت الاعتزال.

 

حتى فوجئت بصديقة أخرى عزيزة وأحبها كثيرًا، في إحدى المرات التي اختلفنا فيها قالت لي إنني مريضة اهتمام (attention whore)، هكذا قالتها بالنص، لم أستطع نسيانها فاعتزلت أكثر، لا أعرف كيف تحول حب الناس لي واهتمامهم بي إلى ذنب.

 

ردود أفعالنا على التنمر جدًا غريبة، لماذا توقف عقلي حينها؟! لماذا لم أخبرها عن كل الفترات التي اعتزلت فيها وكانت واحدة من الذين وبخوا اعتزالي؟! لا أدري!

 

حين شُخِّصت بمرض الاكتئاب أخذت فترة قبل أن أعي أعراض مرضي، لم أكن أفهم حقيقة ما أمر به، فكنت أخجل حين يعترضني أحدهم ويتهمني بقلة الإيمان وعدم الثقة بالله، وأن الحزن من مداخل الشيطان، ماذا ينقصك؟ لديك كل شيء! أنت أفضل من غيرك… إلخ.

 

الكثير والكثير من التنمر. اسْتُنْفِدتُ طويلاً، حتى نصحني طبيبي أن أخبر الناس عن مرضي.. وأعراضه.

كان مؤلمًا جدًا في البداية أن أخبر الناس سواء المقربين أو الأغراب، ولكني الآن اعتدت ذلك.

كل ذلك لا يبدو غريبًا، أليس كذلك؟!

 

الغريب حقًا أني أصبحت أشفق على كل هؤلاء الذين آذوني أكثر من غضبي منهم.

أشعر أني بشكل ما فطِنْتُ إلى تلك الدائرة المفرغة بين المتنمر والضحية، والتي ربما أتحدث عنها لاحقًا.

ولكن الآن التحدي الأكبر والأصعب هو أن تكون نفسك في عالم يحاول فيه الجميع أن يجعلك شخصًا آخر.

المقالة السابقةنعم أنا أستطيع
المقالة القادمةإلى ميس سعاد.. تنمرك دمرني

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا