كحل وحبهان.. وصفة الجمال والتذوق

834

“يلامسون قلبي أولئك الذين ينتبهون لتفاصيلي الصغيرة، التي لا أنتبه أنا نفسي لها”.. جبران خليل جبران.

 

كانت هذه دائمًا طريقتي في القراءة وطريقتي في حب ما أقرأ، التفاصيل، السحر العجيب الذي يجعل أي نص له رائحة وملمس، يهمس لك في أذنك بأنك لست وحدك. تفاصيلك الصغيرة انتبه لها غيرك وكتبها كأنه كتبك. كنت أقرأ الروايات والقصص فتعجبني الحكاية لكن نادرًا ما تلمسني. من ثمانية أعوام قرأت لرجل يعبر عن مشاعره ببساطة محببة، يحب ويتألم ويخاف ويراقب النمل والناس والحياة، كتاباته تأخذ قارئها في تمشية طويلة من الونس، عرفت أن هناك كتابة تلمس القلب أكثر من الروايات.

 

كحل وحبهان.. شيئان لهما في نفسي الكثير من التقدير المُرّ والمحبة اللاذعة. كل عام نحتفي بالبساطة المحببة والتفاصيل الصغيرة بكتاب جديد لعمر طاهر. لكن هذه المرة الاحتفاء أتى على شكل “كحل وحبهان”. عنوان فيه السحر والمذاق. هل يمكن لعمل درامي طويل بإطار وحبكة أن يأتي على نفس وتيرة الصدق التي عوَّدنا الكاتب عليها؟ التحدي بالنسبة لي على الأقل لم يكن في قراءة رواية كتبها الرجل الذي يرصد التفاصيل الصغيرة في حكايات صغيرة، التحدي كان أن هذه الرواية تقوم بالأساس على حب الطعام والطبخ. المطبخ.. المكان الذي أمر من أمامه كمروري من أمام غرفة الفئران. الطبخ عقدتي الأزلية.

 

كيف سيختلف عمر طاهر؟ أغلب شخصيات الروايات تتحدث عن طبقات اجتماعية غير مألوفة. لكن الطبقة المتوسطة التي نشأت في الثمانينيات والتسعينيات هي أكثر طبقة تشبه من يقرؤون الآن، الأمر لا يقتصر هنا على النوستالجيا. لكن تاريخ الأبطال ركن أساسي من أركان الرواية، تاريخنا ركن أساسي من أركان كتابة عمر طاهر. إنها الخلطة السحرية الجميلة التي لا يعرف سرها غيره.

 

تنقسم الرواية إلى جزأين مكتوبين بالتبادل، جزء عن “عبد الله” الصبي النزق في مقتبل العمر و”عبد” الله الرجل المغترب الذي يعيش وحيدًا في القاهرة لأجل العمل. التنسيق مريح تمامًا للقراءة والوقفات، خمسة أيام من حياة الصبي وعشرة أعوام من عمر الرجل. تنسيق يعطي الرواية هيئة رواية الأجيال. على خطين متوازيين في زمنين مختلفين، يسير بنا الكاتب برشاقة وخفة، يتجنب الحبكات المتعددة والتداخلات المربكة. الرواية ذاتية بامتياز، تشعر وأنت تقرأ أنك في حذاء “عبد الله”، تشاركه الهموم والمشاعر والتطلعات، والتذوق.

 

تنقسم الرواية إلى جزأين.. هل كتبت هذا من قبل؟ جزء عن المشاعر الحياتية للبطل، وجزء عن دور الطعام في حياته. على خطين متضافرين في زمنين مختلفين تقرأ عن العلاقة الحميمة التي تربط الطعام بكل شيء، الصداقة، الأمان، الحب، الحياد. هناك سبعة مطابخ في الرواية، مطبخ الجدة، مطبخ الأم، مطبخ عبد الله في غربته، مطبخ عمة صافية، مطبخ المطعم الشعبي، ومطبخ عبد الله وصافية. تنتقل الحميمية بين المطابخ في مشاهد دافئة تناسب تمامًا سياق القصة من وجهة نظر البطل المغرم بالطعام.

 

تقسمك الرواية إلى جزأين، جزء مفتون بالطعام وجزء مفتون بفلسفة الطعام والطبخ والروائح. لكن هل يكفي أن تُحب الطعام لتفهم الحياة؟ الرواية لا تعالج فهم الحياة، لكنها تتطرق إلى التعامل مع الحياة بحميمية، خصوصًا الحياة الاجتماعية التي يفتقد فيها معظمنا الشغف، ويفقد شهيته والدهشة. أو يعرقل اكتئابه بالطعام.

 

اختار عمر طاهر أن يكتب لنا بالرائحة والطعوم، وصوت الطشة ونطرة جوزة الطيب والتسبيكة والرز حبة وحبة، اختار الطعام ليرى كل شيء من خلاله، ليكون الوسيلة للتقارب والتجاوز والمحبة. بين الأم والابن، الأم والأب، الأب والابن، بين عبد الله وصافية. شعور بالقشعريرة ينتابني عندما أقرأ عن هكذا علاقة تجمع بين حبيبين بالشغف. أن يكون الطعام لغة جديدة للحُب.

 

هل تغير شعوري بالمطبخ؟ ربما، صحيح أنني ممن لا يقضون الكثير من الوقت في المطبخ، لكن الرواية علمتني على الأقل أن أفعّل حواسي بالمكونات. ضيقي وخوفي من رأي الناس في طعامي أفقدني بهجة الطقوس وطرق الطبخ. لكن الكتاب أعاد لي بعضًا من التواصل الروحاني بالمطبخ والطبخ. أعتقد أنني اجتزت التحدي مع نهاية الرواية، نهاية دافئة تليق برواية خرجت من الفرن توًّا.

 

رواية مختلفة.. لا تصلح إلا للذواقة. الشغف هو المكون الرئيسي فيها. رواية لا تنتهي منها إلا وأنت تشعر بالامتلاء والمذاق الحُلو والشهية الواسعة للحياة.

 

 

 

المقالة السابقةللتوثيق
المقالة القادمةفقط.. كنت أحتاج أن أُدلل

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا