كادر الحياة بيدور

640

القصة وما فيها إني -نظرًا لشغل والدي- اتنقلت في أول 20 سنة من عمري بين حوالي 15 بيت في 10 محافظات مختلفة.

 

في أول الحكاية مكانش عندي مشكلة مع التنقلات وتغيير المكان، يمكن لأن كان سني صغير، أو لأن التنقلات كانت من أقصى الصعيد لمحافظات أقرب للقاهرة، حيث أهلي والفُسح ونوعية الحياة اللي تشبهني. لحد ما حصلت حركة تنقلات ورجعنا الصعيد تاني.

 

كنت 14 سنة، يعني عز المراهقة والأحلام والمشاعر البِكر، الصداقات اللي بنفتكر إنها هتستمر للأبد، لأننا شايفين روحنا خلاص كبرنا وعرفنا إزاى نختار، بالإضافة للثانوية العامة اللي انتقالي للصعيد هيسبب تحوّل جذري في تنسيقي الجغرافي.

 

وقتها كنت مبيّنة للكل إنى مش فارق معايا وهعرف أتأقلم وأستمر في علاقاتي اللي مش عايزاها تنتهي.كانت دي أول مرة أجرّب الفراق وأنا كبيرة وواعية. واكتشفت ساعتها -لما أصحابي قرروا نتجمع لآخر مرة ومنزلتش أشوفهم- إني مبحبش الوداع.

 

لحد ما جت آخر 10 دقايق لينا في البيت قبل ما نسيبه ونسافر، لقيتني بدخل أوضتي الفاضية أقف في كل رُكن وأعيط، وكانت دي أول مرة أحس إن فيه حاجة قادرة تكسرني بجد. وقتها قررت إني عمري ما هتعلق بمكان تاني مهما كان، وإني هتعامل مع كل شيء حواليّ سواء مكان أو أشخاص أو ذكريات على إني رَحَّالة هتاخد من كل حتة تروحها أمارة لكنها مش هتسيب حاجة منها لحد.

 

انتقلت بعد كده بين 8 أماكن، بس كان الموضوع بقى عادي، بقيت بروح المكان وأنا من جوايا مستنية النقلة الجاية، شُنطي مبتتفضاش للآخر.. ذكرياتي اللي بصنعها بتبقى من ع الوِش.. بكون صديقة حميمة للناس من غير ما أسيبهم يتخطوا جوايا حدود القُرب المسموحة.. صندوق أسراري مقفول بالضبة والمُفتاح.. وقلبي مستخبي ورا كل الأبواب المُصَفّحة الممكنة.

 

حتى لما رجعت عشت تاني في المكان اللي وجعني فراقه رجعت شبح، مش إنسان. مش هقول فضلت كده لحد فترة وبعدين الحياة اتظبطت.. لأ.. أنا لسه كده، مبنتميش لأي مكان مهما حبيته. حتى بعد جوازي واستقراري، ما زلت بتعامل مع البيوت على إنها شوية حيطان ممكن في أي وقت نسيبها ونمشي.

 

اتعوّدت إن الذكريات أصنعها مع أشخاص مش مع خرسانة. واتعلّمت إن الفراق بيوجع لكنه مبيقتلش، وإن النسيان شيء حقيقي بيحصل بس محتاج مننا شوية وقت. وإننا قادرين نبدأ حياة جديدة أكتر من مرة بشوية مجهود مع حبة مرارة في الحَلق بيختفوا أول ما نتعود. والأكيد بقى إن العلاقات الإنسانية قابلة للاستمرارية رغم المسافات والسنين.

 

هل عدم الانتماء للأماكن والتعامل بأريحية مطلقة مع فكرة الفراق والتعايش من بعده شيء لطيف وصحي ولا لأ؟ هو ده السؤال اللي بيطرح نفسه.

 

بالنسبالي عدم الانتماء بيخليك فعلاً أخَفّ وإنت ماشي في الدنيا، شنطتك اللي مسافر بيها يدوبك فيها وش من هنا على كلمة من هناك على صوت ضحكة حد كان قريب منك وشوية ذكريات متعلقة بمشابك الوَنَس على جدران القلب، إنما لا فيها بيوت ولا شوارع ولا كراسي تحرقك لما تيجي تقوم من عليها، فبالتالي وجع الفراق بيبقى قليل والوداع بيتحول لعيون مدمّعة بتضحك ضحكة مُرة، إنما عمرها ما هتموت.

 

بس برضو خليك عارف إن عدم الانتماء هيسيب على روحك علامات، ويخليك تملّي مسافر جواك لوحدك، ومهما فتحت أبوابك للجاي والجايين عُمر ما شخص واحد هيبقى معاه كل مفاتيحك وحكاياتك، فهتفضل غريب مع كل حد عرّفته حتة منك، وتخليه ميشوفش غير فَصل م الحدوتة، إنما القصة كاملة عمر ما حد هيقراها.

 

“وإنت عليك تختار 

 

هتبدّي مين على مين وتبدي إيه على إيه

 

الجاى والجايين ولا اللي خدت عليه”

 

للاستماع : أضغط هنا

المقالة السابقةصدور الدجاج بالجبنة البارميزان
المقالة القادمةوصال الأرواح
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا