في سوْرة غضب أو حب

497

ماذا يتمنى أن يأخذ، من أعطى آخر ما يملك في سوْرة غضب أو حب؟!*

 

“ماذا يتمنى أن يأخذ، من أعطى آخر ما يملك في سوْرة حب؟!”

 

عندما تولد البنت منا يرضعونها مع لبن أمها أن مرآة الحب عمياء، وأنه إن بقيت المياه في الغربال وقتها تستطيع أن تأمن للرجال. لكننا ننسى كل هذا الكلام كما ننسى طعم لبن أمهاتنا مع أول رفة قلب.

 

و”غالية” فتاة كانت تعرف أنه لا أمان لرجل، لأنها حتمًا بمرآة حبها العمياء اختارت من لا يصلح. 

استغلها “صابر”.. خانها واستولى على مالها وصديقتها الوحيدة.

تركها بلا أي شيء تدافع به عن نفسها، وفي النهاية ورّطها في جريمة قتل وهرب، وعندما ظهر كانت صديقتها قد شهدت عليها بأنها القاتلة لتفوز به، فخرج للنور ليبارك الصفقة الملعونة ويعلن براءته.

صرخت “غالية”.. خمشت الواقع القبيح بأظافرها.. نهشت السكون بصراخها، وعندما لم يسمعها أحد اختارت الصمت.

صمتت ورفعت عينيها للسماء.. فالسماء تعرف حتى لو لم تستجب.

 

كنت أتأمل “غالية” المنكمشة على نفسها التي تنظر إلى السماء من خلف القضبان، وأتذكر جلستي مكوّمة على نفسي أنظر إلى السماء من شرفة غرفتي.

لم تكن تتكلم. وماذا يفيد الكلام؟!

ماذا يفعل في واقع غلقت فيه أبواب السماء على برهان صغير لبراءتنا؟!

 

يقولون انتهى زمن المعجزات.. انتهى الزمن الذي ربما يستيقظ فيه ضمير “صابر” و”نوارة” ويعترفان بالجرم الذي اقترفته أيديهما.

 

تنظر “غالية” من خلف القضبان إلى السماء وتستجدي بقعة ضوء صغيرة.. شعاع من الشمس يبث في قلبها قبسًا من نور، فلا تضن عليها السماء، وتهبها غلامًا صغيرًا ولد من بين أحشائها لأب خائن قاتل، وهبته يومًا ما كل ما تملك. تبدأ من جديد رحلة بحثها عن السعادة وتسمي الغلام “سعيد” ليكون له حظ من اسمه، ولأنه من جاور السعيد يسعد. 

وتعرف الابتسامة طريقها إلى قلبها ربما للمرة الأولى منذ دخولها السجن.

 

********

ماذا يتمنى أن يأخذ من أعطى آخر ما يملك في سوْرة غضب؟!

 

مات “سعيد”. انطفأت بقعة الضوء الصغيرة التي كانت تنير ظلمات سجن “غالية” وعادت تتخبط في الجدران كالعمياء.

كلا.. لم تعد تستجدي نورًا.

أغلقت السماء أبوابها فأغلقت “غالية” عينيها ولم تعد تنظر إليها. صار همها الوحيد الآن كيف تتعلم أن تعيش في الظلام. 

مدت يدها تتحس ما حولها. ما عاد يفرق معها أن تصبح ظالمة أو مظلومة. لم تعد تعنيها هذه المسميات. هي فقط تريد أن تصبح قوية وأن تتعلم كيف تعيش في الظلام.

 

وتعلمت “غالية”. صارت تمد يدها وتأخد ما تريد.. لا يهم إن كان لها أو لم يكن؛ ما دامت تريده فسيكون لها.

مات الخوف والتردد والشعور الطيب الرقيق بداخلها، وما عاد لها ما تخاف منه أو تخاف عليه، حتى قالت عنها المعلمة “عزيزة” يومًا ما وهي تراقبها “مبقيتيش مكسورة الجناح.. مبقاش يتخاف عليكي يا غالية”.

 

داست الدنيا عليها وسلبتها كل شيء، فداست هي على الخوف وما عادت تنتظر شيئًا أو تهاب شيئًا. وصار همها الانتقام، الذي ربما يجعل لكل ما سبق معنى.. صار همها الوحيد “صابر” و”نوارة”.

وصبرت على مرور الأيام حتى انقضت مدة حبسها، وخرجت لا تريد شيئًا سوى الطريق إليهما.

 

ومثلما كانت المعلمة “عزيزة” تراقبها وهي تصنع مكانها داخل السجن، راقبتها وهي تخطو خطواتها الأولى في طريقها لـ”صابر” و”نوارة”، دون أن تتدخل أو تقدم لها مساعدة، فقط علّقت بقولها “جدعة يا بت” ودعت لأن يبرد الله نارها.

 

ممر طويل مظلم تقطعه “غالية” في طريقها لـ”صابر” و”نوارة”، لا تضيئه سوى مشاعل خافتة، بينما في الخلفية تتسارع أنفاسها.. تلهث.. تتحجر النظرة في عينيها وفي رأسها لا يدور سوى سؤال واحد.. لماذا؟

 

وتأتي لحظة المواجهة.. ترتجف “غالية” من الغضب الذي يحركها.. تصرخ وتتحسس وجه صابر بمزيج من شغف وغضب.. تخمشه بأظافرها فيستعطفها ويلقي بالذنب كله على “نوارة”، التي تبجح في وجهها ولا تخجل أو تشعر بذنب.

تُذكّر “غالية” “صابر” بطلفهما الذي كانت تحمله.. تسأله كيف هانت عليه وهان عليه طفلهما، فتكتشف أنه نسي الطفل كما نسيها!

 

تحسم “غالية” الأمر بقولها “مات بعيد عن حضني.. مشفتوش.. مات في المؤسسة. يمكن لو كان عاش كنت هسيبكم إنتم الاتنين.. كنت هعيش عشانه.. لكن ده قدركم”.

 

تظلم الشاشة وتضئ على جثتي “صابر” و”نوارة” بينما “غالية” خرجت من الظلام إلى النور.

تترد في أذنيها أنشودة البراءة التي تغنيها السجينات في لحظة الإفراج عنهن.. فقد خرجت الآن من سجن “صابر” و”نوارة” وعادت إلى جدران سجن النسا الذي وجدت فيه الصحبة والأمان.

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

* المقطع من قصيدة “بروتوكولات حكماء ريش” للشاعر نجيب سرور. 

 

** السورة بمعنى الشدة والحمية والوثبة القوية.. بشكل أكثر معاصرة، ومن واقع القصيدة نستطيع أن نقول إنها تعني النوبة الشديدة من الغضب أو الحب، التي تفقد الشخص قدرته على التعقل ووزن الأمور بشكل سليم.

المقالة السابقةعن كائن النهانيهو المثابر
المقالة القادمةنوتة الفرحة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا