عن غُرفة 156 وأشياء أخرى

317

14 سنة مرت وما زلت أبتسم كلما تذكرت عام 2001، حين رزقني القَدر -بسبب توزيعي الجُغرافي- كلية صيدلة بأسيوط، ولمَّا كان يفصل بينها وبين بيتي ساعات، جاء القرار بالإقامة في المدينة الجامعية. قضيت هناك عامًا واحدًا أخاله أحد أجمل سنوات حياتي.

 

عامٌ كاملٌ مارست فيه أقصى حدود الاعتماد على النفس والانفراد باتخاذ قراراتي، ما عَظُم منها وما صغر، لم أشعر ولو للحظة بالغُربة أو الغرابة أو وَحشة الفقد والرغبة في العودة والمكوث بين جدران حُجرتي. ليس بسبب توقفي عن الانتماء للأماكن كما كتبت من قبل وحسب، بل كذلك لأنني كُنت وما زلت أرى أن الوحدة تليق بي، وأن صُحبة البنات بالدنيا وما فيها.

 

أتذكر جيدًا وبالتفصيل أول يوم لي بالمدينة والمفاجآت التي حدثت لي منذ وصولي، بدايًة من باب الحجرة الذي لم أستطع فتحه بسهولة، ما أوحى لي أن ساكني الغرفة القدامى يرفضون استقبالي، ثم وضعي لشنطتي داخل الدولاب الإيديال وإغلاقه بالقِفل بينما المُفتاح داخل الشنطة، لتبدأ رحلة البحث عن عامل لكسر القفل وشراء مفتاح وقفل جديدين، وصولاً لعدم وجود سرير للنوم عليه، حيث تحتوي الغرفة على 8 أشخاص و6 أسِرَّة فقط.

 

وعلى هذا كنت سعيدة جدًا بالتجربة قبل حتى أن تبدأ، لدرجة أنني كنت أنتظرها على أحرّ من الجمر وأستعد لها طوال شهور الأجازة، لم يكن ذلك حال الجميع بالطبع، إذ أتذكر في أول ليلة لي هناك بينما كنت أقوم بالتمشية وحدي في الكوريدور (الطُرقة)، رأيت فتاة تبكي بحُرقَة في حجرتها قبل فُراق والديها، كان الباب مفتوحًا، ولم أكن أعرف تلك الفتاة من قبل، لكني وجدت نفسي بتلقائية أدخل الحجرة وأحتضنها، أحاول بَثّ الطمأنينة في قلبها، أُخبرها أنني سأهتم بها وأُخبر والديها ألا يقلقا على ابنتهما طالما وعدتهما بذلك، خصوصًا أنني عرفت أنها نفس كُليتي ونفس الدُفعة.

 

أصبحت تلك الفتاة صديقة لي بعدها، بل اكتشفت كذلك أنها تعيش بنفس مدينتي، فأصبحت رفيقة السفر والقطارات أيضًا. الفارق بيني وبينها أنها ظلت تُسافر لأهلها بمُعدل مرة كل 5 أيام، في حين كُنت أسافر أنا كل أسبوعين أو ثلاثة، على الرغم من أنه لا يفصلني عن بيتي إلا ساعتين بالقطار.

قد يُبرر ذلك أنني أحببت هذا النمط من الحياة جدًا، ولأنني اختبرت الفراق كثيرًا كنت أعرف أن تلك الأوقات طالت أو قصرت فهي مؤقتة، لذا تعاملت معها بحِرص حتى لا أُضيعها فأندم. 

 

أحببت المدينة الجامعية للدرجة التي جعلتني حين تم نقل والدي في السنة التالية رفضت أن أقوم بالتحويل لجامعة القاهرة، رغم أنني قاهرية أساسًا وكل عائلتي هناك، ولم أفعل ذلك إلا بعد إلحاح والديَّ والنَظَر للصالح العام.

 

وعلى ذلك لم يكن العام الذي قضيته بالمدينة سهلاً، إذ حدث لي هناك الكثير من المصائب النفسية والجسمانية، بل والعاطفية أيضًا، حيث مررت بأول تجربة حُب من طرف واحد قصمت قلبي نصفين.

ولكني رغم كل شيء ما زلت أتذكر بكل الحُب والرضا الكثير من التفاصيل التي أحمد الله أنها لم يطُلها ألزهايمر، ما زلت على صداقتي مع العديد من الفتيات اللاتي تعرّفت عليهن هناك، وما زلت بالطبع أحِن لتلك الأيام الممتعة والحقيقية جدًا. 

 

ومُخطئ من يظُن أنني قد أكون أحببت حياة المدينة لأن حياتي ببيتي لم تكن مُرضية لي بما يكفي، لكني اعتدت أن أهوى التجربة، خصوصًا حين أكون بطلة الحكاية وحدي، فأتعلّم بالتكرار والخطأ، وأنهَل من البراح بما يكفي لأن يحمل لي كل يوم رحلة جديدة.

 

وعلى كلٍ فبالرغم من شدة عشقي لتلك الحياة الصخبة وغير الروتينية، لكني حتى داخل حجرتي هناك لم أكن أشعر بالانتماء، كنت أحب زميلات الحُجرة بالطبع ولكني –كعادتي- أحببت التعامل كزائرة، ونتيجة لذلك كُنت الفتاة دائمة التنقّل، لي فراش في كل حجرة من حجرات صديقاتي تقريبًا، حتى أن البعض كن يُلقبنني بياسمين 163، أو ياسمين 164.

 

تلك الأرقام التي كانت ترمز للحجرات اللاتي يرينني أمكث بها على كثرتها واختلافها، فيظنّني أنتمي إليها، حجرات في الأصل مُكتظَّة بصحباتها، غير أن الوَنَس كان يفتح لنا مساحات رَحبة تسعنا جميعًا.

 

تنقلت في حجرات كثيرة بالفعل للدرجة التي تجعلني غير متأكدة من أن رقم حجرتي الأصلي هو الرقم الموجود بعنوان المقال أعلاه، ذلك الرقم الذي غيّرته، وحتى كتابة تلك السطور ثلاث مرات، في كل مرة أخاله رقم حجرتي الحقيقي.

 

في النهاية قد تُنسى الأرقام، ولكن تبقى الذكرى والشعور الذي تجلبه للروح في كل مرة تزورنا فيها، لذا لم يعُد يُفاجئني أو يُغضبني فكرة كَوني في كل مرة أحاول الكتابة عن أماكن أحببتها أو حتى أماكن لم أجد بها نفسي، أكتشف أن عدم الانتماء مرض مُزمن بالنسبة لي، مهما بلغت راحتي بالمكان أو ابتهاج روحي داخله، لأنني أعرف يقينًا أنني نجحت فى اجتياز الشعور بالمرارة واستطعت التصالح مع فكرة السعادة اللحظية دون التفكير فيما يأتي أو ما مضى.

المقالة السابقةلنصاب بالوطن البسيط وبرائحة الياسمين
المقالة القادمةمش تحت السيطرة
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا