عندى طول الوقت غُربة

542

الشعور بالغُربة مُر أوي، بس الواحد مش لازم يكون متغَرَّب عشان يحسه، ممكن جدًا يبقى بين أهله وناسه وجوة بيته بس حاسس الشعور ده، ومش شرط عشان هو مش متفق ولا منسجم مع الناس اللي في المكان على أد ما ممكن تكون المُشكلة في المكان نفسه، أو حتى بطل الحدوتة.

 

وبما إني عِشت عمري كله تقريبًا -بسبب شُغل والدي- بتنقل من بيت لبيت ومن مدرسة لمدرسة ومن بلد لبلد، لدرجة إني خلال أول 20 سنة اتنقلت في حوالي 13 مكان مُختلف، ده خلاني معنديش أدنى شعور بالانتماء للأماكن. فكانت النتيجة إن أي مكان بعيش فيه بتعامل معاه من مُنطلق إنه لوكاندة، مُجرد مكان (مؤقت) للأكل والشُرب والنوم، مبحاولش أسيب فيه بصمتي ولا أسمحله يسيب بصمته عليّ.

 

حتى لما اتجوزت كان كل هدفي أكون مع الإنسان اللي بحبه في بيت واحد، إنما مش مهم أوي البيت نفسه، صحيح زي أي ست اخترت كل حاجة في البيت على ذوقي، الألوان، الموبيليا، أماكن كل حاجة وتفاصيل التفاصيل عشان أخلي البيت شبهي بأكبر قَدر ممكن، إلا إن في نهاية الأمر فِضِل البيت حاجة “جامدة” بالنسبالي.

 

مُجرد مكان بتعامل معاه كمأوى وممكن أستبدله في أي وقت بأي مكان تاني يناسب ظروفي أكتر، يمكن كُل اللي هيبقى نِفسي فيه إن حد بس يقوم بمهمة العِزال بدالي، يلم ويفرش وأنا أروح ع الجاهز، ومع قفلة الباب ورايا وارد جدًا إني مفكرش في البيت القديم تاني لأنه بالنسبالي هيبقى مُجرد رقم في البيوت اللي سكنتها.

 

سِكِنتها؟! سَكَن؟! يمكن أول مرة وأنا بكتب دلوقتي آخد بالي من معنى الكلمة دي ومدى العُمق اللي فيها، لدرجة إني مش شايفة أي مكان من اللي عِشت فيهم ممكن يتوصف بالوصف ده.

 

أكيد قابلت في حياتي أماكن دافية وحبيت القُعاد فيها، وكنت بهربلها لما أحس إني مخنوقة أو محتاجة حُضن، لكن عُمر ما المكان ده كان بيت عايشة فيه على أد ما كان بيبقى بيت حد من الأهل أو الصُحاب أو حتى المدينة الجامعية.

 

والغريبة إني مكُنتش مستنية أوي إن الموضوع ده يتغير مع الجواز، لأن الحكاية خرجت من دايرة إن المشكلة  مُتَعَلِّقة بالمكان أو الصُحبة اللي فيه وبقت مُتَعَلِّقة بيّ وبالأفكار اللي مصدقاها، والأهم بإصراري الرهيب على إني مرتبطش بالمكان ولا أسيب فيه أي حتة من روحي، لأن -ببساطة- الحِتت اللي وزعتها ع الأماكن والأشخاص والتجارب اللي مريت بيها أكتر من إن اللي باقي يكون أد اللي راح، عشان كده عُمر ما كان مسموح إني أفقد السيطرة على قراري بعدم الانتماء لمكان.

 

على طول بتعامل مع البيوت على إنها مُجرد حيطان وأرضيات على شوية عَفش، وده شيء بائس أوي على فكرة، على الرغم من كُوني مش عايزة أغيَّر ده وشايفة إن كده أريح بالنسبالي. لكن ده ميمنعش إني كتير بحِس بالحُزن على نَفسي لما بشوف اللي حواليّ قادرين يخلوا بيوتهم شبههم، وغالبًا بتكون دي  البيوت اللي بلاقيني بحب أزور أصحابها وبتطمن عندهم وأعرف أسيب نفسي من غير ما أحس بغُربة أو إني في مكان مش بتاعي.

 

“عندى جوة الغُربَة حلم”.

بحلم والحلم للفقير وَنَس (زي ما بيقولوا) إني في يوم أقَفِّل التراس الكبير اللي عندنا ومبنستخدمهوش، ويبقى أوضة ليّ لوحدي، لوحدي خالص. مكان أسَوِّيه ع النار الهادية، أدخله لما أحس إني عايزة أهرب للعالم بتاعي.

 

أحُط فيه كل الحاجات اللي على ذوقي لوحدي من غير ما أتعِب نفسي في الوصول لنقطة وسط أو ذوق مُرضِي لكل الأطراف، مكان لما أقفل بابه عليّ أعمل بيني وبين كل حاجة تانية مسافة كافية إنها تحجِب عني دوشة العالم، وياخدني وأغطس جوة نَفسي، نَفسي اللي لسه ورغم كل الوقت اللي بقضيه معاها حاسة إن حقها عليّ أكتر من كده بكتير.

 

المقالة السابقةما نخلي “اللهم إني صائم” شعار للحياة
المقالة القادمةمتحفنا العائلي بالبيت الكبير
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا