عندما أنقذني الحكي من اكتئاب الحمل

1431

 

منذ أكثر من ثلاث سنوات وضعت طفلتي الأولى، ثم وقعت في فخ كآبة ما بعد الولادة، كنت كالغريق الذي لا يجد ما يتعلق به لينجو، بينما يتعلق في رقبتي طفلة صغيرة بكل احتياجاتها، حتى وجدت القشة التي أيقنت فيما بعد أنها كانت طوق النجاة الذي انتشلني وقت ولادتي الأولى من السقوط في بئر الاكتئاب، وكان درعًا واقيًا في ولادتي الثانية من مجرد المرور على تلك البئر اللعينة.
كان ذلك الطوق هو تدوينات الحكي التي كتبتها لنفسي، لأتجاوز تلك المرحلة، ولأنني لا أعرف غير الكتابة وسيلة للحكي، فكانت تدوينات يومية عن ألم الأمومة والاكتئاب والمشاعر التي ضربت عقلي وقلبي دون هوادة. بدأت بسرد سودوي وتدرجت مع الوقت لتدوينات مفعمة بالأمل والامتنان لكل ما تحمله رحلة الأمومة.
سأحكي كيف بدأ الأمر وكيف يبدو الآن، لعل كلماتي تخفف عن أم جديدة أو حتى تخبرها بوسيلة فعالة ومريحة للتخلص من المشاعر السلبية.

اكتئاب ما بعد الولادة

رغم معاناة أغلب الأمهات من اكتئاب ما بعد الولادة، فإنّه حتى الآن لا يوجد وعي كافٍ لدينا في مصر والوطن العربي بكيفية دعم الأمهات الجديدات ومساندتهن حتى يتخلصن من هذه المشاعر السلبية التي تصاحب الأمومة.
تحدثت في مقالات سابقة عن الفرق بين كآبة ما بعد الولادة والاكتئاب، وكيف تفرقن بينهما، وكذلك الأعراض والتعافي، وسردنا في مقال آخر حكايات أمهات متعافيات من اكتئاب ما بعد الولادة، وكيف أن المكوث في النفق المظلم لن يستمر للأبد.
وبناء على ما سبق، وجدت في ولادتي الأولى غرابة شديدة في الحديث عما أشعر به، رغم وعيي التام بما أمر به من كآبة كادت تتحول لاكتئاب، فقد صدمني رد فعل من حولي حين رغبت في الحكي والفضفضة، فلجأت للتدوين ومشاركة أمهات أخريات يمررن بنفس التجربة.. وكان ذلك بداية طريق التعافي.

لمن نحكي؟

إذا كنتِ تمرين بتلك المشاعر المتضاربة، فبالتأكيد ترغبين في الحكي لشخص متفّهم ما تمرين به، دعيني أخبرك أن الجدات والأمهات الكبار لسن هن الواجهة الصحيحة في تلك الأثناء، بسبب اختلاف الثقافات والظروف الحياتية، سيحملنك ثقلاً فوق ما تشعرين به من ثقل أصلاً..
لذا، فواجهتك الآمنة تكمن فيما يأتي:
– صديقة مقربة متفهمة لكِ ولمشاعرك.. فضفضي واطلبي المساعدة وتأكدي أنها متاحة بجانبك على الأقل أول أسبوعين ما بعد الولادة.
– مجموعات الأمهات الجديدات.. اللاتي تثقين في آرائهن وخبراتهن مع الأطفال في المرحلة الأولى، ستجدينهن مررن حديثًا بتجربتك وتخطين هذه المرحلة، فصرن أكثر خبرة من ناحية وأكثر تفهمًا لكِ من ناحية أخرى.
– طبيب نفسي أو معالج نفسي.. حتى لو عن طريق الإنترنت، حيث صار هناك خدمات دعم نفسي متعددة ومتاحة الآن وموثوقة أيضًا، وذلك إذا شعرت أن الأمر أكثر من مجرد مشاعر متضاربة ويتحول لهواجس مرضية تؤذيك أو تؤذي رضيعك.
– الكتابة.. إذا كنتِ تمتلكين مهارة الحكي بالكتابة أو التسجيلات الصوتية، افعلي ذلك دون تردد، سواء بمساعدة أحد تطبيقات الموبايل أو نوتة صغيرة وقلم، كلما أتيحت لكِ الفرصة. صدقيني سيساعدك الأمر في التعافي خصوصًا عندما تعودين لقراءة تدويناتك لاحقًا بعدما تمر الأوقات الصعبة وتشعرين بالسعادة والبطولة لأنكِ تجاوزتِها دون خسائر.

رحلة التعافي

ذكرت من قبل أن الحكي بالكتابة ساعدني شخصيًا في التعافي، بدأ الأمر بإنشائي مدونة سرية تحمل اسم طفلتي حكايات فريدة، كانت سرية لأنني واجهت سخرية من بعض المحيطين بعنوان عندك وقت تكتبي ولسّة والدة؟!، ولكن حتى هذه السخرية تخطيتها لاحقًا عندما صرت أقوى. كنت ولا زلت أكتب في المدونة كلما أتيحت الفرصة.
في البداية كنت أكتب يوميًا عن السهر والمشاعر السلبية والإرهاق والتعب، عن هواجسي بشأن الأمومة وعن عجزي وقلّة حيلتي تجاه صغيرتي، وعن طموحات العمل وأحلام السفر والخروج. كتبت عن كل شيء، كانت تدويناتي في البداية مليئة بالبكاء والحزن والضيق، تدريجيًا تحسنت الأمور كثيرًا، كانت تكبر طفلتي وتبدأ في فعل الأشياء الأولى، كأول ضحكة ومناغاة وخطوة وكلمة.

صارت تدويناتي أكثر تفاؤلاً، وأولوياتي أكثر ترتيبًا، ثم قررت مشاركة هذه التدوينات مع الأمهات حولي، ثم عبر مواقع الكتابة، أدهشني الدعم المعنوي الذي حصلت عليه، وكذلك الحكايات التي قرأتها واستمعت لها من أمهات بطلات مررن بالتجربة بشجاعة.
كان الأمر بمثابة استخدام مشاعري السلبية كحبر للكتابة، كلما كتبت خرج ما بداخلي من غيوم وصار قلبي أكثر براحًا وعقلي أكثر هدوءًا للاستمتاع بالأمومة.

واليوم من قلب التجربة الثانية، أعود لأقرأ تدوينات حكايات فريدة كلما شعرت بشبح الكآبة يحوم حولي، فأطمئن لما سيأتي وأصير أكثر امتنانًا لطفلتي الكبرى. الآن أعلم تقريبًا ماذا سيحدث ومتى، أعلم أن كل ذلك سيمر، فأصمم على الاستمتاع هذه المرّة أكثر، رغم ما أخبرني به الطبيب عن وضعي الصحي الحرج الذي كاد ينهي حياتي حرفيًا وقت ولادتي، ولا زلت أعاني صحيًا من تبعاته.

لكن الله رحيم، حينما أنقذني الله برحمته مرات عديدة، وحينما وهبني الكتابة كطريقة للحكي والتعافي تلك المرة واليوم.. وإذا فلح الأمر معي ومع أمهات غيري كثيرات، فبالتأكيد سيفلح معكِ أنتِ.. جربي الآن.. اكتبي الآن.

المقالة السابقة10 أعمال درامية برز فيها دور الدعم النفسي
المقالة القادمةلمن نذهب لطلب المساعدة النفسية؟
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا