طشة الملوخية

485

طشة الملوخية التي تحل مشكلات العائلة

 

حينما قررت أن أكتب عن أكثر امرأة تأثرت بها كان أول اختيار لي مارثا ستيوات.. السيدة التي جعلت من الطبخ فنًا وصارت أيقونة لمعنى سيدة المنزل الراقية الجميلة التي تمارس كل مهام منزلها بيديها، ومع ذلك تظل بكامل أناقتها وهندامها. وحينما بدأت الكتابة لم أجد مارثا ستيوات بجمالها الراقي أمامي، وإنما ظلت تراودني صورة جدتي لأمي.. ستي أم محمود كما كنت أناديها. 

 

ستي أم محمود الفلاحة غير المتعلمة قهرت مارثا سيتوارت بداخلي وأجبرتني أن أكتب عنها. عن وشاحها الأسود الذي ما كانت تخلعه أبدًا.. عن جلابيبها الموردة “أم كلفة” التي ما زلت أحتفظ باثنين منها وما زلت أرتديهما على الرغم من وفاتها منذ عشر سنوات. 

 

ماذا أقول عن جدتي الراحلة حينما تختلط الكلمات داخلي بالحنين إلى البيت القديم.. جلستي في حجرها الدافئ.. كوب البليلة باللبن الذي كنت أنتحل الحجج لأبيت ببيتها لأشربه صباحًا. 

 

خلفية بيت جدتي كانت تطل على حديقة كبيرة جدًا، واستطاع خالي الكبير أن يفتح بابًا خلفيًا في الدور الأرضي يفضي إليها.. فكنت دائمًا أهرب من السلم الخلفي وأقضي نهاري بين زهرات الياسمين وشجر السيسبان. 

 

مات جدي دون أن أراه.. مات وعمر أمي ثماني سنوات، بينما كان عمر خالي الكبير عشر سنوات فقط، وخالي الصغير كان في سنته الدراسية الأولى. وترك جدتي وحيدة. 

 

حتى الآن أنا لا أعلم كيف استطاعت جدتي القروية أن تصمد وأن تعيش في المدينة وأن تربي ثلاثة أطفال بمفردها. هذه معجزة لا أستطيع فهمها، ولكني أدركها بإيمان في أن لله شؤونًا وتصاريف لا نعلم عنها شيئًا. تصاريف الله قد لا تورثنا مالاً أو غنى ولكنها حتمًا تورثنا حكمة وإيمانًا، وأنا لم أر في حياتي من هي أحكم من جدتي أو أكثر منها ثقة بالله وإيمانًا به. 

 

بيت جدتي كان دائمًا مفتوحًا لأي فرد من العائلة أو لأي مار بالقاهرة. كانوا جميعًا يأتون يشربون الشاي ويحكون عن أخبار”البلد” ويقضون ليلتهم ويرحلون صباحًا. 

 

أما يوم الجمعة فهو يومنا.. يوم الجميع، أمي وإخوتها وأخوالها وأولادهم وأولاد أولادهم. كان هذا يوم اللمة ويوم”المحشي والملوخية والفراخ المسلوقة”. لم تغير جدتي من غداء يوم الجمعة أبدًا.. ففي الصيف كانت الملوخية خضراء والمحشي كان كوسة وباذنجان، أما في الشتاء فكانت الملوخية ناشفة والمحشي كان كرنب. 

 

كانت أمي تفخر بأن لأمها أحسن طشة ملوخية في البلد.. أنا أيضًا كنت أفخر بها وكنت أطالبها حينما تأتي عندنا أن “تطش” تقلية الملوخية، عشان “بحب بتاعتك أكتر من بتاعة ماما”. 

 

حول ملوخية جدتي كان كل منا يأتي بمشكلته ويحكيها، وهي تناقش وتحلل وتصدر أحكامًا نافذة على الجميع. كانت تقرر لنا وتدبر أمور بيوتنا وتناقش الميزانيات وأوجه الصرف، كما كانت تدّخر نقود كل من يريد منهم الادّخار. 

 

تحت سرير جدتي كان عالمي الخاص.. كنت أغطس تحت السرير وأخرج بعد فترة جيوبي مليئة بالتمر الجاف وحبات الكشك الصعيدي والبسكويت، وحول فمي آثار غارتي على برطمان السمنة البلدي. 

 

يقولون “أعز الولد.. ولد الولد”، وأنا أعرف أني كنت عزيزة على قلبها، كانت تستأثرني من دون إخوتي بجلستي جوارها وبنقود أكثر من التي توزعها عليهم، وكانت تحكي لي “عشان أنا الكبيرة العاقلة”.. كانت تتسامح مع زلاتي ومع “لساني الطويل” وكانت تغضب من أمي وتصرخ في أبي إن أغضباني. 

 

في أول أيام دراستي الجامعية أخذتني في حجرتها “عشان توعّيني”، وقالتلي “اوعي جدع يضحك عليكي ويقولك ماما عيانة تعالي شوفيها وتروحي معاه بيته”، ضحكت يومها كما لم أضحك من قبل على هذه الخدعة الخارجة من أفلام الأربعينيات، وأكدت لها أن الوضع مختلف الآن تمامًا، وإن مفيش جدعان والولاد بيقولوا للبنات تعالي معايا البيت عادي والبنت حسب ما يعجبها يا تروح يا متروحش. وظللت أضحك في سري أيامًا طويلة على رد فعلها حين سمعت كلامي! 

 

ماتت جدتي منذ عشر سنوات ولم أبكيها حتى اليوم.. فقط قبل تكفينها دخلت حجرتها ورفعت غطاء وجهها وطبعت قبلة على جبينها وذرفت دمعة.. دمعة واحدة حملتها معها إلى قبرها وربطتني بها إلى الأبد، وعلمتني ألا أبكي بعدها على راحل أو ميت.. فقد رحلت هي وتساوى الباقون. 

المقالة السابقةالمهنة؟ ست بيت.. يا دي العيبة!
المقالة القادمةرُبما كان ذلك أفضل

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا