سألقاك في بورتوفينو يا دكتور أحمد

673

صباح يوم الخميس 5 أبريل

مرت 3 ليالٍ على فراقك يا دكتور أحمد، واليوم يقف محبوك مساءً ليأخذوا فيك العزاء والسلوى.

لا أحد يصدق حتى الآن أنك قابع خلف ذلك الباب الأسود، وخلف تلك الريحانة الخضراء، جميعنا نعتقد أن فترة ما ستمر وذات صبيحة ناسمة سنجد لك تعليقًا ساخرًا على كل ما حدث، ستكتب عن توقف القلب العليل للمرة الأخيرة، وستلوي فمك ضاحكًا وتخبرنا برأيك في الجنازة المهيبة، والجموع التي التفَّت حولك، وستكتب بطيبة “تعبتم نفسك ليه؟ ده أنا اللي أجيلكم لحد عندكم واحد واحد”.

 

هكذا أنت دائمًا ينصبُّ تفكيرك على الجميع لا عليك، تقف وتدًا نتكئ عليه مهما كبرنا وخط المشيب رؤوسنا.. كلنا أبناؤك وأحفاد رفعت العجوز ذي البدلة الكحلية التي تجعله فاتنًا. أتساءل: هل كان يرتديها عندما التقيته في السماوات العلا؟!

أعتقد أنه ليس بحاجة لأقراص النيتروجلسرين الآن، ولا أنت بحاجة لذلك الجهاز الذي اتصل بقلبك طيلة السنوات السبع الأخيرة.. صرتما بقلبين سليمين مُزهرين الآن.

 

لا أعرف كيف سأغيب عن عزائك اليوم، فأنت تستحق أن تُقطَع كل المسافات لأجلك، أن تُطوَى كل الطرق الطويلة لأجلك، قليل من المشقة المحببة فقط لأجلك، ولكن أعبائي تُثقلني وتضع المزيد من العوائق أمامي.. هكذا سأجلس بين أحبابك في بقاع مختلفة خلف شاشات الهواتف، نتجرع الحزن وننتحب بين صور سرادق العزاء لخسارتك، نرى وجوهًا مألوفة من الأصدقاء، نتمنى من قلوبنا أن يغمروا الكون بالتعزية فيك نيابة عنا.

 

الذكريات لا تكف منذ رحيلك أن تتداعى أمامي الواحدة تلو الأخرى، رغم أنها أقسمت لي أن لا تظهر، أن لا تأتي.. ولكنها لا تكف يا دكتور أبدًا، كثيرة هي جدًا حد أمواج بحر لا يكف عن الاهتياج. فأنت تركت خلفك أثرًا باقيًا طيلة العمر، كلماتك وحضورك ولقاءات لك، وأعداد “ما وراء الطبيعة” التي تنام في أدراج الكومود في غرفة نومي. جميعها تطاردني كـ”لوسيفر” أو تبتلعني كـ”الغيلان الجائعة”، تقض مضجعي وتقتنص نومي كليلة قراءتي لأسطورة “بيت الأشباح”.

 

أذكر مشاجراتي العديدة مع أختي.. من منا ستقرأ العدد الجديد أولاً، كنت محتالة دائمًا وأشتريه وحدي لتعود هي فتجدني قد بدأت بالفعل فيه، فلا وقت لإضاعته في تبديل الملابس أو تنسيق كُتب المعرض. أقسم لها أن العدد القادم سيكون من نصيبها قراءته قبلي، وأحنث بقسمي دومًا يا دكتور أحمد. فكيف يكون بين يدي العدد الجديد من “ما وراء الطبيعة” ولا أبدأ فيه لحظتها وفورًا في المواصلات؟!

 

فيما بعد عاقبني الله على عدم إبقاء وعودي معها، فلقد اكتشفت بأني تزوجت بمهووس آخر بـ”رفعت إسماعيل” العجوز، يسبقني زوجي ويغلق باب الغرفة ويختلي به، وأقف أنا بيأس هاتفة “إنت وعدتني إن أنا اللي هقرأ العدد المرة دي الأول”.. يفتح الباب بعد ساعتين على أقل تقدير مُخرِجًا لسانه بمرح واعدًا ألا يحرق لي من الأحداث شيئًا.

 

هكذا كنت الإطار الذي احتوى مراهقتنا وشبابنا، دومًا أنت هناك في الخلفية بتعليق، بجملة، بعدد جديد ننتظره، نجري بحماس ما أن نعرف أن لك لقاءً حواريًا، رغم أننا نحفظ البدايات وكل ما سترويه عن حبك للكتابة أكثر من الطب وتفضيلك لها، لا نَمِلّ سماع حكاياتك، لا نمل قراءتها في مقالاتك العديدة في الصحف، حتى بعد أن جمعت تلكم المقالات في كُتب، اقتنيناها وأعدنا قراءتها من جديد.

 

حتى لفظة “تلكم” جيل بأكمله يكتبها مثلك، نشاهد ترشيحاتك من أفلام الحافظة الزرقاء، يتكشَّف لنا معك عالم إدجار آلان بو، ولافكرافت، وديستوفيسكي، نصد ق الأساطير، ندرك ما هو “الجاثوم”، ونفتح “صندوق باندورا” بحذر شديد، ونوزع أوراق التاروت راجين أن لا يظهر لنا الموت بمنجله. سوداوية “يوتوبيا” تنقبض لها قلوبنا، ونراها بملء أعيننا الآن تتحقق بواقعية مخيفة.

 

أذكر يومًا أن عذوبة صوت داليدا كانت تتسرب إلى حوائط وطرقات البيت، تتغنى بدلال I found my love in Portofino.

كنت حامل بطفلتي، وأتكوَّر جالسة براحة.. سألت زوجي “بتسمع داليدا؟”، فأخذ يقرأ لي كلماتك المحببة بعنوان “وجدت حبي في بورتوفينو” عن الأغنية وعنها، صوته وصوتها حاوطاني بالاسترخاء. بقيت طيلة اليوم أطلب منه إعادة الأغنية، مرة تعقبها الأخرى.. أبتسم وأربت على بطني الكبير، أحتضن طفلتي وأتمايل وأمتن لك كثيرًا على كل تلك الطاقات العذبة التي تفتحها لنا، على إغراقنا في حلاوة كل تلك الذكريات التي نحتت عالمنا الصغير وشكَّلته.

تابعت بعدها بنهم “نشوات قديمة” التي كنت تكتب فيها عن مفضلاتك من الأغاني التي هي -على حد قولك- كنوز دُفنت وغطاها الصدأ والتراب. اخترقت جميعها سمعي وروحي حتى صارت مفضلة لي أنا أيضًا.

 

بالأمس في نوبة بكاء قوية بعد رؤية جسدك يحاوطه النسيج الأبيض رثيتك بكلمات حزينة على صفحتي الخاصة:

ألف ريحانة وريحانة لك يا دكتور أحمد، ألف نور ونور..

اليوم ثقيل كالأحجار على الصدر، والدمع يأبى التوقف.

ألف تحية طيبة على قلبك السليم بعد اعتلاله، فهو بين يدي الله ينظر فيه.. فليطب قلبك الآن.

التحيات والطيبات على روحك المبتسمة لنا الآن، أولادك من كل حدب وصوب يُخلِّدون ذكراك في ألف مرثية حب.. في مسيرة دافئة.

هنيئًا لك بمحبة الخالق وخلقه أجمعين.

أبانا الذي يسكن وراء الرياحين والباب الأسود، لتغمرك السكينة. لقد استرحت وليتنا نسترح بعد فراقك.

ألف ذكرى وذكرى تشكل الآن وجعًا عظيمًا.

أغلق جانب النجوم أبوابه، وسُدت ثقوبه.. انطفأت النجوم حُزنًا عليك.

ليتنا نستطع التوقف عن النحيب، واستدعاء سائر ذكرياتنا معك.

ليتنا نُشفى من الحزن.

عزاؤنا أننا نتخيلك تربت على رؤوسنا برضا الآن قائلاً: إن قلبي بكم يسعد، ولكم يطرب.

فنحن إرثك وحصاد أفكارك بجذرها الضارب بقوة داخلنا، وأفرعها التي تطال السماء.

سلام عليك يا أبانا خلف الرياحين، ألف ألف سلام“.

 

قد لا أستطيع حضور عزائك، واحتضان العالم المفطور حزنًا، ولكني أعدك يا دكتور أحمد إن قُدِّر لي ذات يوم وذهبت إلى بورتوفينو سأذكرك.

للأبد..

حتى تحترق النجوم.. وحتى…

سأذكرك.

 

 

المقالة السابقة10 خطوات ليوم ممتع بالمنزل
المقالة القادمةهل يمكن الهروب من الإنهاك؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا