دروس التنمر

1791

عرفت التنمر في مرحلة مبكرة من حياتي، تحديدًا في الصف الثالث الابتدائي، بدأ الأمر بجلوسي إلى جوار زميلتي المصابة بالقمل، كانت محط تنمر الفصل كاملاً، حتى أن بعضهم كان يتفنن في إدخال أقلامهم إلى رأسها لمضايقة الحشرات وصاحبتهم.

كانت تبدي عدم اكتراثها، حتى أنها كانت تخشى الهرش الذي يلح عليها، فتضع إصبعها بحياء شديد مكان الحكة لتتظاهر بأنها تقوم بفعل لا يلاحظه أحد، كان هذا يزيد الجميع فجورًا، بما فيهم أنا.

لكني حين جلست إلى جوارها أصابتني العدوى، وأصبحت أنا الضحية الجديدة للجميع، لم أدرك في البداية ما حدث، لكني رأيته في أعينهم، غمز ولمز، وضحكات مكتومة، أضحى الجميع يتجنبوني، فجأة أصبحت منبوذة، لم تدافع عني سوى صديقتي المقربة “إيمان”، لم أفطن لفداحة الموقف إلا حين وقفت لتنهرهم “حرام عليكم كفاية بقى!”.

أصبحتُ المسكينة التي تستحق التعاطف فجأة، كدت أصاب بحالة نفسية، لولا أن لاحظت أمي -باركها الله- العدوى وسارعت بمكافحتها

لكن صورتي لم تتغير حتى بعد أن صار رأسي نظيفًا، وظللت منبوذة يتحدث معي الجميع باعتبار أن لديَّ “ذلة” يجب أن أخجل منها ولا أرفع عيني في أحد، كانت تلك بداية لتقليص صداقاتي بشدة، لتقتصر على “إيمان”، وحتى تلك صاحبتها على مضد لأنها كانت صداقة مبنية على الشفقة.

تأثير التنمر على نفسية الطفل

في المرحلة الإعدادية واجهت مرحلة أصعب من التنمر، تحديدًا في الصف الأول الإعدادي، حيث أعده أسوأ أعوام حياتي على الإطلاق، كان التنمر الذي تعرضت له كفيلاً بتغيير مسار حياتي كليًا، صحيح أنه كان للأفضل لكن الثمن كان غاليًا.

بدأت الحكاية بزيادة مضطردة في وزني عقب الصف الخامس الابتدائي، فجأة تضاعف وزني، قاربت على الـ80، لم يكن الأمر جيدًا على الإطلاق، في تلك المرحلة التي تبدأ فيها الفتيات في التأنق وإيلاء أنفسهن مزيدًا من العناية من أجل مظهر أجمل، وجدتني أرتدي مزيدًا من الطبقات كي أخفي جسدي أسفلها.

كنت أشعر أنني أكبر سنًّا من الجميع، لكن شعوري لم يكن النقطة المهمة في تلك المرحلة، كانت النظرات وطريقة التعامل التي حظيت بها هي الأهم، حيث تعرفت للمرة الأولى في حياتي على معنى “أن تكون بدينًا في مصر”.

التنمر المدرسي

بدأ العام الحزين بانتقالي من مدرستي الخاصة (واحة الأمان بالنسبة لي) إلى مدرسة إعدادية حكومية. حظيت بتنمر الجميع، مدرسين، زملاء، وحتى المارة في الشارع بسبب وزني

ما وصلني باختصار في هذا العام: البدين لا يجب أن يبدي رأيه، فهو بني آدم درجة ثانية وعليه أن يحمد الله أن “الطبيعيين” يتركونه يتحدث معهم.

البدين شخص غير جميل، غير مرغوب في صداقته، زائد عن الحاجة، تمامًا كوزنه، عاجز عن إيجاد ملابس مناسبة، بائس، غير قادر على الشعور بعمره الحقيقي أبدًا ولن يساعده أحد على ذلك، لا مكان للبدناء في الحياة، لا ملابس لهم، ولا اعتبار؛ عليهم أن يختفوا لأنهم بهذا الوزن، هم في نظر الكثيرين لا يستحقون الحياة.

وصلت إلى مرحلة كرهت معها النزول من البيت، كرهت المدرسة وملابسي وشكلي وكل شيء. لا يزال المشهد الأبرز في ذاكرتي مدرس التاريخ الذي كنت أحب حصته لأنه يشرح جيدًا، لكنه فاجئني ذات يوم حين كان يتحدث عن “سيرابيس” الإله الذي يرمز إلى الشفاء عند المصريين، ويُمثَّل له بالعجل “آبيس”، فأراد تقريب الصورة ضاربًا المثل بي!

لم ينتهِ هذا العام إلا وقررت أمي إعادتي إلى مدرستي الخاصة القديمة، بعد أن لاحظت التدهور الشديد في مستواي الدراسي، بالرغم من العبء المادي الذي لم تكن تقدر عليه، لكنها خاطرت بكل شيء لأجل مستقبلي. ركضت لإنهاء الأوراق ورأيتها بعيني تبكي في ليالٍ عديدة وهي تشعر بالعجز، حيث يتطلب التحويل الكثير من الإجراءات السخيفة، خصوصًا في غياب الأب. حتى عدت أخيرًا لكنها لم تكن مجرد عودة عادية.

في عامي الثاني الإعدادي ركزت على دراستي واستعدت مستوايا المرتفع، وفي فترة ثلاثة أشهر بين الصفين الثاني والثالث الإعدادي خضت رجيمًا قاسيًا للغاية، مع تمرينات رياضية عنيفة أفقدتني قرابة 30 كيلوجرامًا، حتى أن الجميع لم يعرفونني في اليوم الأول من العام التالي.

لم ينته التنمر عند هذا الحد، في مرحلة الثانوية عدت مجددًا إلى مدرسة حكومية، لكنها كانت أفضل حالاً، مع ذلك تعرضت للتنمر، هذه المرة لم يتعلق الأمر بوزن زائد أو قمل، لكنه كان بسبب التفوق! كنت في عامي الأول في فصل 1/1 فائقات، كريمة المدرسة، لكن حين قررت التخصص في القسم الأدبي عاقبتني المدرسة بنقلي إلى 2/13، هناك استهدفتني “شلة”، فقط لأنني قادمة من فصل الفائقات، كان التعامل معي باعتباري كائنًا فضائيًا يجب إهانته من أجل إعطائه شعورًا بأنه “أرضي”، كنت أهرب من الحصص كي أذاكر في الفناء بعيدًا عن كلماتهم، كنت أتجنب النزول في الفسحة كي أتلاشاهم، وصلت في بعض الأيام إلى مرحلة كراهية المدرسة.

لكنني في يوم من الأيام واجهتهن جميعًا فسكتن فجأة عن الإيذاء، يومها استجمعت قوتي وتحدثت إليهن بطريقة لم أعهدها من نفسي، كنت قوية جدًا وكلماتي واضحة ومحددة بعدم التعرض لي مرة أخرى بالإيذاء، أخبرتهن أن كلماتهن تضايق أي شخص وأنني لا أفهم سبب كراهيتهن وأنني أيضا أملك القدرة على الإيذاء، فإن عُدن عدت، وقد عُدن بالفعل.

ثلاثة نماذج للتنمر في المراحل الدراسية الثلاث، لم ينته الأمر في الجامعة، لكنني كنت قد طورت بالفعل طريقتي الخاصة في التعامل مع الأمر، هكذا اعتدت أن أكون وحدي، أن أعطي الأمور حجمها، أن أركز وأتفاهم مع نفسي بصورة أفضل، والأهم أن أرى الناس من منطقة مختلفة تمامًا تجعلني أقوى على اختيار من يستحقون بالفعل أن يكونوا إلى جانبي مهما كنت أو بدوت، الأهم أنني تعلمت أن المساعدة تصبح فرض عين في حالات التنمر، بدونها قد يبقى المتنمَّر عليه في سط الدائرة الجهنمية إلى الأبد لتقضي عليه، تعلمت أيضًا أن المواجهة خيار فعَّال مهما بدا الأمر مخيفًا، لكنه على الأقل يترك أثرًا طيبا في نفسك، أنك لم تكن سلبيًا تجاه نفسك.. وهذا أضعف الإيمان.

المقالة السابقةعندما لم تعد الرياضيات كابوسًا يطاردني
المقالة القادمةامسك متنمر
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا