ازاي اعمل كارير شيفت؟ افكار كارير شيفت وتجارب مفيدة

1209

أقف أمام غرفة الإنترفيو المكيفة متوجسة بعض الشيء، تصرخ بداخلي الأصوات القائلة على طريقة هنيدي المميزة “قومي بينا نمشي”، لم أكن خائفة مما سألاقيه، فما أسوء شيء يمكن أن يحدث مثلاً؟! ألا أُقبَل؟ لا أهتم البتة، بل في الواقع إذا حدث هذا، سأخطو خارج البناية وأتنفس الصعداء.

 

ربما يندهش البعض لأن من غير المنطقي إطلاقًا أن يتنفس أحدهم الصعداء إذا رُفِض في وظيفة يتقدم إليها، لأنه مُفلِس ومُطارد وحزين، لكن لربما يكون لي العذر حينما يُعرَف أنني كنت أتقدم لوظيفة خدمة عملاء بشركة أجنبية، كان صديق لي قد نصحني بالتقدم لها فور إعلانهم عن حاجتهم لمتحدثين جيدين جدًا للإنجليزية، ونظرًا للظروف المالية شديدة السوء التي كنت أمر بها آنذاك، بعد حجب الكثير من المواقع الإلكترونية التي كنت أكتب لها.

 

دلفت إلى المكان وفي قلبي رهبة لا بأس بها، اختلطت بداخلي مشاعر تعتمل بالحزن والألم والقهرة والرغبة الشديدة في الهروب، أحسست كأنني أخرج عن جسدي وأشاهدني من بعيد، تلك الفتاة الحالمة التي لطالما أحبت لمعة النجاح بعينيها في المرآة، الفتاة التي أنهت تمهيدي الماجستير في العلوم السياسية لتوها بتقدير عام امتياز لتكون الأولى في دفعتها، والتي تعلمت الكثير من اللغات تحضيرًا لسفرها لأي بعثة تلوح في الأفق لدراسة الدكتوراه، تجلس هناك، على كرسي يضيق بعض الشيء على جسدها الممتلئ، ترتدي قميصها المفضل وعطرها الفاخر وتضع أحمر الشفاه الماركة، في انتظار أحدهم ليقرر مصيرها لتعمل ممثلة لخدمة العملاء بالإنجليزية! كنت أشعر بالمرارة، بالرغبة في الصراخ، كنت أحس أن هذا ليس بمكاني، لكني كنت أطمئن نفسي بين حين وآخر بأن هذه محض مرحلة انتقالية عابرة إلى حياة أرحب بكثير، أشعر فيها بالانتماء إلى ما أفعل، أو بالأحرى أفعل فيها ما أحب.

 

انتهى الإنترفيو باجتيازي له كالشعرة من العجين، ورغم أنني كنت أشعر بأنه شيء متوقع جدًا لأنني لم أفعل شيئًا إلا التحدث بإنجليزية سليمة عن مجال شغوفة به، وهو “النسوية”، لكن غصة ما ملأت حلقي وأبت أن تجعلني أتنفس الصعداء لخروجي من هذا المكان، الذي شعرت أنه كالمقبرة ما أن خرجت منه وعبرت الشارع ليلمس هواء البحر العليل وجهي المكفهر، غصة أنني سأعود هنا مرة أخرى، للمقبرة التي ستتحطم عليها أحلامي.

 

يمر أسبوع تحت التمرين، وفي صباح ذهابي للتدريب، جاءني اتصال هاتفي يخبرني أن إحدى زميلات الدفعة التي لم تكمل الماجستير، والتي رسبت في البكالوريوس لعامين متتاليين، والتي كنت أساعدها لتحصيل موادها الدراسية، تعينت في الكلية، لتصبح الدكتورة “د”، وذلك “عشان ليها قرايب مهمييين”، بينما أنا سأذهب إلى المقبرة، أجلس خلف سماعة، أستمع منها إلى شكاوى العشرات يوميًا، يسبون ويلعنون ويكرهونني دون أن أفعل لهم شيئًا من الأساس. دلفت إلى الشركة في صمت، ولم يسعني إلا الذهاب للحمام، لأبكي في حرقة شديدة، وأخرج محاولةً التظاهر بأن شيئًا لم يكن، ليمر اليوم بالطول أو العرض، ولأعود لسريري الجميل، حيث أتقوقع فيه بعيدًا عن ظلم العالم الكئيب، وحمدًا للرب أن الغد وبعد الغد عطلة، سأتجنب الناس لثلاث ليالٍ كاملة.

 

في اليوم الأخير من إجازتي، وفي أثناء تجوالي بين قنوات التلفاز بحثًا عن ملجأ أدفن فيه همي، وجدت أحد أقرب الأفلام لقلبي وأكثرها كآبة أيضًا، Revolutionary Road، بالرغم من أن البعض قد يظن أن هذه صدفة ليست سعيدة بالمرة، لكنها في الواقع كانت كذلك؛ فتحت عيني على أشياء لم أكن لأراها، وجعلتني أرجع للوراء بضع خطوات، لأرى المشهد كاملاً، المشهد الذي يمكن أن أتحول فيه إلى “كيت وينسلت”، امرأة تتخلى عن الحياة لأنها فقدت الشغف في سعيها له، لم تعد تقدر على المواصلة، لأنها فقدت فرصتها الثانية في تحقيق شيء تحلم به، عاشت في خواء، فعاش الخواء بها، طوّقها بذراعيه حتى أطبق عليها وكاد يخنقها، فتخلصت من حياتها لأنها لم تستطع أن تغتنم فرصتها الثانية، دفنت نفسها بين أحزانها دون محاولة للسعي لاغتنامها، تخلت عنها بمنتهى السهولة لأنها لم تجد شريكًا داعمًا بما يكفي ليجعلها ترى نصف الكوب المملوء بالعصير.

 

لربما يظن البعض أن هذا محض كلام تنمية بشرية، لكني فعلاً حاولت التفكير في مصير يماثلها، مصير ينتهي بي إنسانة تفيض بالخواء واليأس، فقط لأن الحياة “لطَّشت” فيها بعض الشيء، فقررت ألا أكونها، ونظرت إلى الموضوع بشكل آخر، وهو أنني سأحظى بعشرات التجارب لأكتب عنها، سأسافر إلى بلاد لم أزرها وأنا في مكاني، سأقابل أناسًا جدد، سأحظى بفرصة لأفعل شيئًا جديدًا قد يبدو في محتواه مملاً جدًا، قد يبدو غير مناسب لفتاة مثلي، لكني سأكون جديرة به، لتعطيني الحياة فرصة جديدة، أفعل فيها ما أحب.

 

أكتب هذا اليوم وأنا أصوغ العنوان الرئيسي لرسالة الماجستير التي سأبدأ فيها خلال شهر على الأكثر، أكتب هذا ولدي ثلاث رفيقات أكثر من رائعات في محل عملي الجديد، أكتب هذا وأنا أحقق نجاحًا لم أكن أتصور أني سأفعله في مكان كنت أمقته بشدة، أكتب هذا وأنا أقع في حب التجربة، وأعد نفسي بأن أتحرر منها حالما أشعر أنني فقدت الشغف، لأنني لن أكف عن البحث عن فرص ثانية للشعور به.

المقالة السابقةكله تمام
المقالة القادمةلاسكالا.. الحياة دومًا ما تعطينا “فرصة ثانية”
صحفية وكاتبة مصرية.

1 تعليق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا