أخدت رخصة السواقة وانضميت لجماهير السواقين الغفيرة، وبدأت رحلتي في التدوير على عربية مناسبة، واكتشفت إن كل معلوماتي عن العربيات ملهاش أي علاقة بالعربيات نفسها.
كل ذكرياتي عن العربية كانت اهتمام بابا بالساوند سيستم بتاع العربية، رحلات المصيف على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، والسباقات بين بابا وأعمامي مين هيوصل الريست الأول، على خلفية من شريط عمرو دياب الجديد اللي بيغني معاه فيه الشاب خالد "قلبي متعلق بيكي" بأعلي صوت في سماعات العربية الجديدة.
هل الساوند سيستم أهم من مواصفات المحرك؟ السؤال ده ممكن يجيلك في "بمَ تفسر" في امتحان ما، وتضايق أوي وتحس إن فيه خدعة وأكيد السؤال معمول عشان يغلطك، فتجاوب كده بالمنطق إن المحرك أهم، مع إن بنتك بعد 21 سنة مش هتفتكر حاجة عن المحرك وهتفتكر الساوند سيستم وشريط عمرو دياب، خصوصًا وهي سايقة وبتحاول تدور هتشتري أنهي عربية.
بعد ما بنطحن نفسنا في دوامة الحياة اليومية، لو قعد كل واحد مننا يفكر في أكتر حاجات استنزفت أعصابه طول اليوم، هننبهر بكمية الحاجات اللي ملهاش لازمة وأخدت حيز من وقتنا وتفكيرنا وأعصابنا، واحتمال تكون بوظتلنا اليوم.
بالنسبة ليّ مثلاً، لو حبيت أفكر في يوم امبارح، هلاقي إني اتضايقت من كلمة قالتها مديرتي، ضيقة عادية وطبيعية مكانتش هي المشكلة. الغريب حقيقي كان كمية تداعيات الضيقة دي، فضلت أفكر في مواقف شبيهة على فترات متباعدة من اليوم، وأفكر في رد فعلها معايا من ساعة ما عرفت إني هسيب الشغل، مع إن ترك الشغل من حقي تمامًا، وبعدين فضلت أفكر في قرار ترك الشغل نفسه هل هو صح ولا لأ، وأفكر في الشغل الجديد واحتمالية الصعوبات اللي ممكن تواجهني. كل ده حصل بشكل خفي طول اليوم على فترات مختلفة، بس لما ركزت في آخر اليوم حسيت إن كده عيب وميصحش والله! يعني الست تقول كلمة طياري وتخلع بنفسها وأنا أفضل أدور في مدارات مركزها كلمة عبيطة متهمش حد؟
في نفس اليوم حصل حاجات مبهجة كتير مخدتش الحيز اللي تستاهله، أنا وبنتي مثلاً رقصنا على أغاني هشام عباس، وكانت كل ما الأغنية تخلص بنتي تزعل وتطلب أغاني تاني عشان عايزة ترقص، وكنا بنضحك من قلبنا، كانت لحظات صافية وجميلة، بس مرت مرور الكرام، صحيح عملت شحن طاقة حلو بس خلص بسرعة بعد ما رحت جنبها في النوم وصحيت تاني يوم مرهقة ومش عايزة أروح الشغل وحاسة بمتلازمة "مجبور عليك يا صبح مغصوب يا ليل".
بفتكر دايمًا جملة بتقولها ميريل ستريب في المشهد الوحيد اللي طلعت فيه في فيلم "إيفنينج"، معناها إن اللي وصلتله بعد ما عمرها عدى إن كل الحاجات اللي كانت واجعاها وتاعباها مطلعتش بالأهمية اللي هي فاكراها.
أنا خايفة فعلاً لما أكبر أكتشف إن تلات أرباع عمري قضيته زعلانة من حاجات مش مهمة، وغضبانة على حاجات مش مهمة، ومرهقة بفعل حاجات مش مهمة. المهم الحقيقي كانت تفاصيلي الخاصة جدًا، اللي كانت بتزاحم عشان تلقالها حيز وسط الميغة دي، وكانت كل فين وفين أما تلاقيلها مكان.
في اللحظة دي تحديدًا بحاول أكبر دماغي من مواصفات العربية وأفكر في ليستة الأغاني اللي شغالة وأنا بسوق، بسترجع بابتسامة إحساسي كطفلة وأنا بحاول أشوف النجوم في سما الطريق الصحراوي بالليل، اللي مخبيها انعاكسي على قزاز شباك العربية. حاليًا أنا مشغلة عمرو دياب وماشية في طريق شبيه، وللأسف مش هعرف أراقب النجوم عشان مركزة في السواقة، بس الإحساس ملازمني كأني قاعدة دلوقتي أعدُّهم.
بحاول محسش بوجع قلب كل ما أفتكر إن أي صاحبة برتاحلها تبعد عني مسافة 4 ساعات طيران وتحويشة محترمة، بحاول أفتكر كل الشاي بلبن منه فيه "سكر برة" على قهاوي وسط البلد، وكل الحكاوي والضحك اللي سايبين في القلب علامة، وبفتكر تحديدًا اليوم اللي جبت فيه نص بطيخة ورحت قابلت صحابي وقعدنا ناكل كلنا بطيخ بالمعلقة ع القهوة. بدعبس جوايا عن كل نبتة صالحة تتزرع في خراب الملل والإرهاق والغربة، تعلمني أرجع أنبهر بالتفاصيل من جديد.
استرجاع الجمال ده كله مش لازم يكون سبب حسرة، ممكن يكون سبب سعادة، لأنه حصل فعلاً، وأكيد هيحصل تاني ولو بشكل مختلف. ممكن نعمل تكنيك للذكريات نسميه "حنين مش حزين" نفتكر بيه الحاجات اللي بنحن إليها ونبتسم، زي وقفة "إس" اللي بتبقى وسط النوتة الموسيقية كده.. ناخد نَفَس عميق في الوسط قبل ما نغطس تاني في الدوامة، عشان نقدر نكمّل عوم.