“حل الضفاير”.. صوت البنات في حكايات

545

بعد أن خرج جميع من في المنزل، جلست “نور” الصغيرة وحدها، فوالدتها ووالدها في العمل، وأختها الكبرى تتنزَّه مع صديقتها، لم تجد نور ما يسلي وحدتها سوى كتاب أزرق اللون كان مُلقَى على الأريكة بإهمال. لم تفهم “نور” ذات الـ12 عامًا معنى اسم الكتاب “حل”، ولكنها بمجرد أن بدأت القراءة فوجئت بأن الكتاب به نوع من السحر، فهو يتحول إلى رجل حقيقي يأخذها في رحلات مختلفة، لتتعرف على حكايات البنات في المجتمع المصري ومشكلاتهن التي لا تنتهي، مرة بسب العادات والتقاليد، ومرة بسبب غياب التعليم وانتشار الجهل والعشوائية.

 

كان ذلك أحد مشاهد مسرحية “حل الضفاير” الذي عُرِض مؤخرًا على مسرح الفلكي بالجامعة الأمريكية بالتحرير، ضمن برنامج “العرض مستمر” الذي أطلقته السفارة الأمريكية ويهدف لدعم وتشجيع المواهب النسائية في الكتابة. العرض من تأليف “سالي ذهني” وإخراج محمد فؤاد عابدين.

اسكتشات مختلفة قدَّمها العرض المسرحي، ناقشت أهم قضايا المرأة بشكل شبابي بعيد عن التهليل والمبالغة، فلا يخلو بيت مصري من مشهد أو اسكتش من اسكتشات العرض، سواء اسكتش التحرش، أو غياب الرومانسية أو محاولة التحكم والسيطرة التي تشهدها المرأة في شخصيتها وملابسها ممن حولها دون مبرر.

أبرز تلك القصص هي حكاية “إيمان وهدير” الصديقتين اللتين كان حلمهما تمثيل مصر عالميًا رياضيًا، ولكن “هدير” اختارت السفر خارج مصر لتحقيق حلمها، بعد أن رأت أن موهبتها لن تُقدَّر في مصر، بل وسيُقضى عليها بفعل الروتين والعادات والتقاليد، أما “إيمان” فرفضت ذلك المبدأ وأكدت لصديقتها أن السفر هروب، وأن النجاح الحقيقي هو أن تحقق حلمها من داخل بلدها.

وفي المطار تتفق الاثنتان أن تتقابلا بعد 10 سنوات لتحتفلا بنجاحهما. وتسافر “هدير” بالفعل وتحقق النجاح المنشود، أما “إيمان” فتظهر لها العقبات واحدة تلو الأخرى لتمنعها من تحقيق حلمها، مرة في رئيس الاتحاد الذي يرفض أن يعطيها منحة للسفر والتدريب في الخارج، ومرة في خطيبها الذي يطلب منها أن تتوقف عن ممارسة الرياضة وتصبح ربة منزل عادية تجيد الطبخ، ومرة في والديها اللذين يعلنان أنها لا بد أن تتزوج حتى لا تحظى بلقب “عانس”، لتتخلى “إيمان” عن حلمها في النهاية، وتصبح مجرد زوجة وربة منزل عادية.

 

اسكتش آخر، هو مناقشة قضية الرومانسية في مصر قديمًا وحديثًا، فرغم أن الاسكتش لم يتجاوز الدقائق، لكن المخرج ومؤلفة العرض استطاعا تلخيص الوضع الاجتماعي في مصر خلال الـ70 عامًا الماضية، والتغيرات التى طرأت عليه، بشكل مبسط وعميق في نفس الوقت، لتبدو ذروة المأساة، ولكن بنظرة غلب عليها السخرية.

 

فـ”نور” الفتاة الصغيرة، التي تمثل جيلاً كاملاً، عندما تبدأ نقاش مع كتاب “حل”، يكتشف أنها لا تعلم شيئًا عن معنى الرومانسية، سوى أنها مجموعة من الحركات الراقصة في أغاني المهرجانات الشعبية، أو إفيهات كوميدية ساخرة في الأفلام السينمائية، وأن هذه هي الطريقة المعروفة للتعبير عن الحب بين الرجل والمرأة حاليًا.

 

فيحاول “حل” تصحيح مفهومها من خلال عرض شكل الرومانسية في مصر في أفلام فترة الخمسينيات والستينيات، حين كان هناك تقدير للمرأة ومشاعرها، ثم يستخدم “كوبرى قصر النيل” كرمز مُتعارَف عليه للرومانسية في مصر، ليُظهر تطور شكل الحب والتعبير عنه، حين كانت كلمات الشعر الراقية والتغزل في جمال الحبيبة والورود هي الغالبة، أما الآن فلا يوجد ما يسمى رومانسية، بل عشوائية قبيحة.

 

وينتهى العرض بأن تمنح شقيقة “نور” الكتاب لصديقتها، فتشعر “نور” بالحزن لفراق الكتاب وحكايات “حل”، ولكنه يعود إليها مرة أخرى ليخبرها بأنه لم يتركها، لأنه صار معها في قلبها وفِكرها.

على الرغم من الفانتازيا الكوميدية التي بدت في العرض، الذي استمر لساعتين تقريبًا، وضحكات الجمهور التي لم تتوقف على اسكتشاته، لكنه حمل بين ثناياه لمحات من الألم لهذا الواقع القاسي الذي تضطر المرأة لمواجهته كل يوم وحدها، دون أي دعم من المجتمع حولها، بل في كثير من الأحيان يكون الانتقاد والسخرية واللوم هو ما تحصل عليه.

وتفاعُل الجمهور الشديد مع العرض المسرحي، لم يكن فقط بسبب حكاياته الواقعية الساخرة، بل أيضًا للمواهب الشابة التي قدمها، والتي تمثل المفاجأة الحقيقية، فكل ممثل تقمَّص دوره بالشكل الذي جعل المتفرج لا يشعر للحظة بأن ما يُقدَّم على المسرح تمثيل، بل حقيقة، فحركات الجسد ونبرة الصوت والحس الدرامي لكل ممثل يتماشى ويتغير بحسب كل مشهد، دون مبالغة، وكأننا نشاهد إحدى مسرحيات فؤاد المهندس، زمن الكوميديا الحقيقية والضحكات النابعة من القلب دومًا.

فـ”نور” تلك الفتاة الصغيرة صاحبة الـ12 عامًا، التي تمثل دور البطلة، التي تقرأ الكتاب وتشاهد تلك القصص، تجعل المتفرج يشاهد العرض بنظرتها هي، المليئة بالبراءة والمثالية والتساؤلات، وفي نفس الوقت يشعر بالشفقة تجاهها من الواقع القاسي الذي ينتظرها عندما تكبر، ويبكي معها عندما يختفي الكتاب، ويطرب فرحًا عندما يعود “حل” لها مرة أخرى، ويرقص معها قبل إسدال الستار كرمز على أن المعرفة هي سلاح الفتاة، وأن عقلها هو دليلها في مواجهة الحياة، وتلك الحكايات هي وسيلة لتتعلم منها.

“حقيقية”.. هذا ما وصفت به سالي ذهني مؤلفة “حل الضفاير” قصص العرض، فمعظم تلك الحكايات مستوحاة، إما من حكايات وقعت في محيطها لأصدقائها وأقاربها وإما مما شاهدته خلال عملها في منظمة الأمم المتحدة، حيث تعاني المرأة من القهر والضغوط الشديدة التي تلغي أي قدرة لها على الحلم وتحقيق شخصيتها. والتغيير بواسطة الفن هو ما اعتبرته سالي وسيلتها الفعَّالة لتوصيل صوتها للمجتمع، فالحملات والدعاية المباشرة لم تجدِ نفعًا، لذا قررت استخدام سلاح الفن بعد أن رأت أنه أكثر انتشارًا وتأثيرًا.

 

“نفسى كل الناس تعرف معاناة المرأة والتحديات اللي بتواجهها، والتمييز اللي بتواجهه، وأهمية إننا نعطي المرأة فرصة التعبير عن نفسها وقضاياها وحياتها بالشكل المناسب لها”.

 

في النهاية يمكن وصف عرض “حل الضفاير” بأنه كان اسمًا على مسمى، حيث تم “حل ضفائر” كثير من قضايا المرأة المتشابكة بسهولة ونعومة ويسر، لتبدو تلك القضايا أمام الجمهور منسدلة دون أي رتوش أو تجميل أو مبالغة، وتظهر معها حقيقة أن المرأة ما زالت تعاني في مجتمع يمارس دور الوصي والرقيب عليها بتعسف وقسوة، وكأنه لا يراها سوى طفلة صغيرة لا يجوز لها حل ضفائرها لتنطلق وتصبح فتاة وامرأة لها الحق في التحكم في مصيرها وتحقيق أحلامها.

 

 

 

المقالة السابقةتألقي بالوردي الناعم من وحي مدونات الموضة
المقالة القادمةطوبة.. ورقة.. مقص
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا