حلقات دعم للأرواح المُرهقة

1005

تضغط طبيبة العلاج الطبيعي على رقبتي وتلويها بشكل غير طبيعي، وتقول”لو شعرتي بأي ألم أخبريني”، تستمر في الضغط وأستمر في الصمت، حتى تلاحظ هي انقباضة أصابعي، تتوقف لتسألني “هل تشعرين بالألم؟ ألم أقل لكِ أن تخبريني عندما تشعرين بالألم؟!” أخبرها بأن هذه آلام اعتيادية ولم أشعر حتى الآن بألم لا أطيق تحمله، تغضب وتخبرني “لم أقل لكِ ألمًا غير محتمل، قلت عندما تشعرين بأي ألم”، أرد عليها قائلة إنني أشعر بالألم من أول لحظة قامت فيها بلمس رقبتي ولكنني أتحمل، لأنه من الطبيعي أن أتألم وهي تضغط بهذا الشكل، فالرقبة مكان حساس، ترفض ما أقوله وتخبرني أن أستمع إلى كلامها وأخبرها بمكان الألم.

 

أشاهد نساءً وبناتٍ أخريات يعانين بشدة ويصرخن من شدة الألم عند القيام بتمارين مخصصة للظهر أو الساق، أقول لنفسي لا بد أنها حركات صعبة بالفعل، أجربها لنفسي في المنزل فأقوم بها في منتهى السهولة. حينها أقتنع أنني فقط اعتدت على ألم الرقبة حتى أصبح هو طريقتي التي أحيا بها، أصبح جزءًا من طقوسي حتى اعتقدت أن الناس كلها تعاني من هذا الألم، اعتدته حتى أنني توقفت عن محاولات علاجه وظننت أنني أستطيع عن أحيا هكذا، ولكن جاءت اللحظة التي أصبت فيها بما يُشبه الشلل وألم لا يطاق في أسفل عمودي الفقري، سببه آلام الرقبة المُهمَلة.

 

أتخيل أن هذا أصبح أسلوب حياتنا جميعًا، نتجاهل الآلام النفسية والجسدية، نعتاد على الحياة بها، نقنع أنفسنا أننا سعداء وأننا نستطيع التحمل، غيرنا مرّوا بمثل هذه المواقف وتحملوا وأكملوا حياتهم وعاشوا سعداء، نحن إذن لا نختلف عنهم ونستطيع أن نفعلها. فقط حين تقترب أرواحنا وأجسادنا من نقطة الانهيار، ننتبه إلى أهمية الأمر ونحاول أن نصلح ما أفسدناه بسنوات الإهمال.

 

تدخل (هي) على صفحة المشاكل الشهيرة بشبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، تبعث رسالة بمشكلتها الشخصية عبر حساب مزيّف، تنتشر مشكلتها على الصفحة وتصيب الكثيرين بالصدمة، فهي أم تغضب من ابنها ومن الدنيا بأكملها، فتصب غضبها على طفلها وتخنقه بيديها وتفيق على اللحظة الأخيرة، تعترف بخطئها وكونها مريضة وتطلب المساعدة بأي طريقة. بمجرد أن تُنشر المشكلة تبدأ التعليقات في جلدها ورجمها وسبّها، قاموا بنعتها بأحط الألفاظ، ولكنني لم أجد تعليقًا واحدًا يحاول مساعدتها.

 

تشاجرت مع شخص ما بسبب هذه المشكلة، كنت أقول بدلاً من أن تقوموا بلعنها فلتساعدونها، هي معترفة بخطئها، كوننا نعيد في إخبارها بذلك بدون إعطاء نصائح حقيقية أو رقم تليفون طبيب متخصص، بالتأكيد لن يساعدها في شيء، هي طلبت الدعم ونحن فقط قمنا بتكرار الكلام.

 

هناك سلسلة كتب تحمل اسم Chicken soup for souls تهتم بالتخفيف عن آلام الأرواح المُرهَقة مهما كانت، انتهيت من قراءة واحد منها بعنوان Chicken soup for new moms soul، يحتوي الكتاب على أكثر من سبعين قصة قصيرة حقيقية عن الأمهات الجديدة في عالم الأمومة. مسّني الكتاب للغاية، فبعض الحكايات تتشابه مع حكاياتي، بكيت في حكايات أدعو الله ألّا أكون يومًا مكان تلك الأم، وضحكت في أخرى.

 

ما لفت انتباهي بشدة هو تأكيد -في أغلب الحكايات- الدعم النفسي الذي يجب أن تحصل عليه الأم الجديدة، تعتمد بعضهن على الأسرة والأصدقاء، بينما اعتمدت أخريات على الذهاب إلى مؤسسات تعتني بالأمهات، يشكّلن معًا حلقة دعم، يضحكن ويبكين ويفرغن كل طاقتهن السلبية وشحناتهن العاطفية فيها، يعلمن أن في هذه الحلقة كل واحدة موجودة لدعم الأخرى، تقول لها أنا هنا بجانبك، أتفهم موقفك وعشت في نفس مكانك، أنا لا أحكم عليكِ، أنا هنا لدعمك إذا احتجتِني أو لم تحتاجيني. لم تنتظر البطلات لحظة الانهيار حتى تطلبن المساعدة، ولم يتركها لها من حولها حتى يسارعوا بتقديم الدعم اللازم وإبداء الحب والتفهم وتقديم يد المساعدة وأذن للاستماع.

 

للأسف نفتقد مثل هذه الحلقات بشدة في عالمنا العربي، تترك كل منا نفسها حتى تصل لحد الانهيار، تحاول التعلق بقشة وتعيش على الحافة دائمًا. قد تلجأ البعض لمجموعات الفيسبوك السرية أو صفحات المشاكل الاجتماعية، ولكنها في الكثير من الأحيان بدلاً من أن تتلقى الدعم تنال سيلاً من الانتقادات اللاذعة والتعليقات السخيفة، فتتوقف عن طلب الدعم. ولماذا تطلبه مجددًا وهي لم تحصل عليه في المرة الأولى؟ وتظل هكذا حتى تنهار تمامًا.

 

فقط تذكروا كل لحظاتكم الأليمة، وكم أفادكم وجود شخص بجانبكم لكي تتجاوزوها، واعلموا أنه لن يلجأ أحد إلى الدعم الفيسبوكي لو كان قد وجده في الحياة، فتوقفوا عن الإساءة إليهم ومدوا إليهم يد المساعدة.. أو اسكتوا. 

 

المقالة السابقةالتشجيع على الخيانة مصلحة من؟!
المقالة القادمةفن الإنصات لله

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا