حكاية شتا من عشرين سنة

421

 

منى فتحي

وقتها كان منتصف ليل الإسكندرية، يعني للجميع النوم، فالبرد القارص لا يساعد على أي شيء إلا النوم بعد الاندثار تحت كم لا بأس به من الأغطية، ولكنه كان يعني لي شيئًا آخر، كان يعني أن وقت الحكاية قد بدأ.

أترك فراشي الدافئ، لأنضم إلى جدتي (التي أبقاها انتظارها لموعد الدواء متيقظة حتى تلك اللحظة) في فراشها الأكثر دفئًا.

تبتسم بفم تساقطت أسنانه، فبدا لي كمغارة غاب عنها حراسها.. مغارة عامرة بكنوز الحكايات!

تحملني بين ذراعيها قائلة بصوت زاد زحف الشيخوخة على نبراته، دفئًا فوق دفء “إنتي لسه صاحية!”، لتكمل وهي ترى سعادتي واتساع ابتسامتي يزداد وأنا في حضنها الدافئ “اسمعي باقي الحكاية”.

حينها ترقص لهفتي قافزة من عين كنت أظنها لسنوات طويلة مضت- امتلكت سعادة الكون كله وحدها، إلى أن عرفت بعد عدة سنوات، أن سعادة جدتي كانت أكبر من سعادتي، فانتظارها وحيدة في تلك الأمسيات الباردة قاسٍ جدًا، فهل هناك ما هو أجمل من طفلة هادئة -بعد أن أنهكها اللعب طوال اليوم- جاءت لتقطع قسوة البرد والوحدة؟!

تعرفي على: أجمل عبارات عن بيت الجد والجدة

كانت كل حكايات جدتي وقتها تدور حول “بيت العيلة”.. بيتنا.

كيف كان؟

حكت لي جدتي بمنتهى الفخر والسعادة المشرّبة بالحنين.. كيف كان البيت قبل سنوات.

حكت عن منزل مكون من طابقين تعلوهما تكعيبة العنب، تلك التي شهدت تجمعات العائلة كلها في ليالٍ صيفية صاخبة بسمر لا ينتهي.

 

عن تلفاز عتيق التف حوله الجميع بحثًا عن دفء مختبئ بين جدران مزخرفة برسوم ضاحكة.

وبدموع فرت هاربة فلحقتها ابتسامة مفعمة بحنين جارف، حكت عن جلسة جدي في الشرفة صباح كل جمعة لقراءة الجرائد.

حكت وحكت وحكت، كانت لا تمل الحكي وكنت لا أملّ الاستماع.

ومرت السنوات وكبرت أنا، وكلما كبرت أكثر زادت لهفتي لحكايات جدتي أكثر وأكثر.

حكايات ظننتها لن تنتهي ولكنها انتهت.. رحلت الجدة وتركت بيت العيلة الجميل.. الذي لم يعد جميلًا!

لكِ أكتب تلك الكلمات، أكتبها بينما يداعب أذني صدى ضحكاتها حين أخبرتك بإنكِ بطلة روايتي الأولى، التي لم أكتبها بعد وربما لن أكتبها أبدًا!

حين تتراقص عيني بدمعة ضائعة بين ابتسامات لا تنتهي، أعلم أني أشتقت إليك يا حبيبتي.

 

 

 

 

 

المقالة السابقةلماذا لا أرد على سؤالك؟ كورة حريمي
المقالة القادمةالعيب في مش فيك
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا