حكاية بنت اسمها هويدا

789

طيب.. فيه بنت محتاجة سرير وبطانية وشوية حاجات، عايشة لوحدها، لو تقدري توفريلها ده يبقى كتر خيرك.

 

تمام، هقابلها فين وإزاي؟

 

“هويدا” فتاة بيضاء جميلة، ترتدي ملابس خفيفة في عز الشتاء. تجاذبنا أطراف الحديث ثم رجعنا إلى بيوتنا، دون أن تأخذ “هويدا” منا مليمًا أحمر.

 

البنت مرضتش تاخد الفلوس، وبتقول أسباب واهية جدًا لتركها البيت، البنت دي لازم ترجع بيت أبوها، البنت دي هتضيع.

 

البنت بتقول أي كلام عشان اتكسفت تقولك إن أبوها حاول يعتدي عليها، مراة أبوها طردتها، البنت مبتكدبش، البنت مكسوفة من اللي بيحصلها.

 

“هويدا” فتاة لم تكمل عامها العشرين، تعمل 12 ساعة في اليوم كي تأخذ في نهاية كل شهر 500 جنيه، تدفع منها إيجار “بدروم”، تركب مواصلات، تشتري ملابس، وتحاول أن تعيش.

 

“هويدا” تركت بيت أبيها الذي حاول الاعتداء عليها، تزورهم كل أسبوع كي تطمئن على أختها الصغرى، تستقبلها زوجة الأب بابتسامة لأنها تركت المنزل وحققت لها ما تريد.

 

“هويدا” تتعامل يوميًا مع جيران يرون أنها سهلة لأنها تعيش وحدها، فتاة في سن المدرسة تعيش وحدها وترجع يوميًا قرب منتصف الليل؛ لا بد أنها هربت من المنزل بفضيحة، يجب أن ينهش كل منهم ما يستطيع نهشه منها دون رحمة.

 

“هويدا” يستغلها صاحب العمل لأنها تحتاج “الكام ملطوش” ويسخّرها للعمل أكثر من 12 ساعة يوميًا، يستغلها صاحب البدروم ويزيد الإيجار لأنها تحتاج مأوى ولن تجد أرخص من غرفة البدروم تلك، بسقفها الآيل للسقوط ورشح الحيطان حولها.

 

“هويدا” ترفض المساعدة المادية، ترى أنها ما دامت لديها الصحة فلنبحث أنا وأمثالي عن آخرين لا يستطيعون العمل لنساعدهم، ترفض المساعدة العينية وترى أنها ما دامت تعمل فلنبحث عن أخريات لا يستطعن العمل كي “نكسر عينهم” بالمال.

 

“هويدا” تكرهني، وتكره كل من يريد مساعدتها؛ عالم الكبار بالنسبة إليها عالم بغيض؛ كلهم يبغون السيطرة عليها لتحقيق انتصار شخصي على جسدها الهزيل وقلبها المثقل. ترفض العيش مع سيدة مطلقة حتى لا تكون رقيبًا عليها، تقول إنها ارتاحت للوحدة، تريد مكانًا خاصًا بها كي تكتئب في صمت، حتى لو كان المكان “بدروم” يرتفع سعر إيجاره كل فترة.

 

“هويدا” تدخن السجائر خلسة، تقابل أصحابها الذين لا أعرف عنهم أي شيء، تغلق الهاتف في وجه كل من يحاول السيطرة على حياتها.

 

“هويدا” فتاة صغيرة، تعيش وحدها في عالم مليء بالبشر الذين لا يستطيع أي منهم مساعدتها، تحلم أنها سوف تكمل مذاكرة الثانوية العامة وتحصل على مجموع كبير يؤهلها لكلية من كليات القمة، رغم أنها رأت من الحياة ما يكفي كي تكفر بها وبالأحلام.

 

“هويدا” لا أعرف بعد عام أو اثنين أو يوم أو اثنين ماذا سيحدث لها، لأنها ترفضني، كما ترفض كل الكبار الذين يأتوها بنصائح باهتة وبعض الأموال الفائضة عن حاجتهم.

 

“هويدا” حكاية تتكرر كثيرًا، في مجتمع يحمّل الفتاة وزر أن تكون فتاة، في مجتمع يرى أنها ما دامت تعيش وحيدة فهي بالتالي خاطئة، أو سهلة جدًا، في مجتمع يرى أنها لقمة سهلة الهضم. لا أضمن ألا تتحول “هويدا” بعد فترة من الزمن إلى نموذج درامي ممتاز يمكّن أحدهم من تحويلها فيلمًا، عن كيف يمكن أن تتحول فتاة مدرسة إلى خادمة أو شيء أكثر قسوة.

 

قصة “هويدا” دائمًا تبدأ بدراما رخيصة، ثم يتصاعد الإيقاع لتكون إحدى الشخصيات التي نراها ثم نشمئز منها.

 

في مجتمع يرى “هويدا” مخطئة لأنها لا تعطي مبررات مقنعة لتركها بيت أبيها، لأنها لا تدور تشحذ بجرحها وتتسول العطف، لأنها ما زالت تؤمن أنها تقدر.

 

لا أتمنى شيئًا أكثر من أن تظل “هويدا” فتاة لا يقترن باسمها وصف مخزٍ، لا أتمنى شيئًا أكثر من أن تظل “هويدا” بنت “نضيفة” في مجتمع يتكسب ممن تدوس الحياة على رقابهم.

 

لا أثق في أي شيء سوى أن الله أكثر رحمة بها وبنا من أبيها الجهول، وزوجة أبيها التي تعفنت نفسيتها، ومن صاحب “البدروم” الذي يكسب من وحدتها، ومن صاحب العمل الذي يجني الكثير من حاجتها.

 

“هويدا” أكثر قوة منهم جميعًا، ومني أنا أيضًا.

 

المقالة السابقةعن الإرهاق الاجتماعي
المقالة القادمةاستمارة نماء الروح
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا