بين السما والأرض

625

إلى مها.. ابنتي البِكر 

عسى الله أن يملأ حياتها فرحًا

 

**

 

في البدء كانت السماء

– للبدايات سر يكمن في سِحر الدهشة، ذلك المس الذي يُصيبنا فنصبح مثل أطفال صغار يخطون أولى خطواتهم في الدنيا الجديدة، يملؤهم شغف بكل ما حولهم، فيتَهجون أبجديات الحياة لأول مرة بلا خوف، راسمين على وجوههم ملامح الانبهار، في حين تلمع أعينهم بفرحة الاكتشاف العظيم.

 

– للبدايات أجنحة فراشات تأخذك بها بعيدًا لعوالم ملونة، عطرة، لا ترى بها إلا كل ما هو جميل، هناك ستنبهر بكل شيء حتى وإن كان عاديًا جدًا! ستجتاحك نوبات سعادة تشبه الدغدغة، هكذا ستصفها، إلا أنك فيما بعد ستعرف أنه كان عليك تشبيهها بنوبات الأورجازم.

 

– للبدايات خيال جِنيَّة يُهيئ لك أن كل الأشياء ممكنة، وأنك كما يليق بإله عُدت قادرًا على صنع المعجزات وتقبل القرابين، ما سيمنحك الرغبة والقوة على خلق البهجة ونثر الفرحة على من حولك في هيئة قلوب صغيرة ملونة من غزل البنات بطعم قوس قزح.

 

هكذا يا أعزائي تكون بدايات حالات العشق:

* حين ترى كل اللحظات صالحة لإثارة الحُب والدهشة حتى في وقت العراك.

* حين تنتهي كل الخلافات بنوبات من الاحتواء والتفاهم وتجديد العهود.

* حين تأتي الهدايا بدون أسباب، ويصبح الورد لغة متداولة، وتتبادل الأغنيات والأشعار.

* حين تتشابك الأصابع وتُختلس قبلات بطعم الجنة.

* حين نلجأ إلى مفردات طازجة، ألوان حَيَّة، فنُحب الكون ونُحب أنفسنا أكثر.

* حين نسعد باليوم، ونتشوق للغد، ونركض لعتبات الفرح البعيدة.

 

ثم تستمر العلاقات ويمر الوقت ونصل إلى بوابات “بُكرة” التي تُفتح لنا، فتصبح حياتنا هناك قائمة، حقيقية، وأمر واقع.

 

ثم كانت الأرض

– للأرض رائحة الطمي الحميمة، تلك التي تُشعرك أنك تنتمي إلى هناك، حيث موطنك الأصلي ولونك الدافئ الخَصب، تستقر بها مثل نبتة خضراء، تكبر وتزدهر ضاربة بجذورها لأسفل، طارحة أحلامها المورقة للعنان، فتقوى ويشتد عودك وتصبح قادرًا على مواجهة رياح الحياة الصاخبة.

 

– للأرض العديد من الطُرق التي تستطيع أن تسلُكها لتصل إلى مبتغاك، والإشارت التي تُنير لك السِكَّة فتعرف ماذا عليك أن تفعل ومتى. نعم قد تواجهك المطبات والفِخاخ، لكنك تستطيع أن تعالج ذلك بالانتباه للعلامات التي ستساعدك على الوصول سالمًا فقط إذا كنت حريصًا بما يكفي لإتمام مُهمتك بنجاح.

 

– في الأرض ستجد السَكَن والسكون، سيمكنك أن تجلس القرفصاء لتتسامر مع من تُحب دون أن تخشى أن تُطيح بكُما نسمة هواء، ستستطيع أن تسند رأسك على كتف نصفك الثاني، تاركًا كل حِملك لديه والانتقال خفيفًا دون عبء وأنت على يقين من أن أحلامك لن يعبث بها أحد، وحين تصل إلى الإحساس بالأمان، وقتها ستسعى وتسعد بتلاقي أرواحكما واتحادهما في هيئة فراشة/ فتاة صغيرة جميلة، مشروع حلم يُخلد قصتكما للأبد.

 

بين السما والأرض 

تكمن كل الأحلام الممكنة والمستحيلة، قد يظن البعض أن السماء ممتعة أكثر، خصوصًا حين يرى طيورًا جديدة تتعلم التحليق والغناء، وقد يرى آخرون أن الأرض أكثر استقرارًا وأقل صخبًا، خصوصًا حين يشعرون أن ساكني الأرض حياتهم أكثر سلاسة وأقل اصطدامًا، غير أن كل مرحلة لها جمالها الخاص مثلما لها من عيوب.

 

فالبدايات جميلة بمفاجآتها، مبهجة بحيويتها، وطازجة بأحداثها الأولية، ونقاط النور التي نراها بعيدة فنتتبعها بفرحة وعفوية وإصرار. في الوقت نفسه نحتاج وقتًا طويلًا لفك شفرات الحكاية وتمهيد الطريق كي يصبح آمنًا وصالحًا للركض واللعب والحب. بل ومن حين إلى آخر قد يُجانبنا الصواب في ترجمة ما نمر به، فلا يمكننا أن نتعلم إلا عن طريقة المحاولة والخطأ والصبر.

 

وحين يهدأ الفوران وتعتاد أعيننا الرؤية وقلوبنا التجربة، فتنتقل بنا الحياة من المد إلى الجزر، لا تكون تلك هي النهاية والسقوط في فخ الصمت والوَخَم، بل مجرد طور جديد في رحلتنا المكوكية الفريدة. حيث نجني وقتها ثمار ما زرعناه سلفًا، فنجلس نهنأ بالهدوء والثبات وقدرتنا على الرؤية في الظلام، حينها سيكون للشعور بالأمان والاستقرار لذة جديدة ودسمة، فنخطو بمنتهى الثقة نحو الغد لا يدفعنا الفرح، لا يُعمينا الحب، بل يقودنا الإيمان بأننا لا نفعل سوى قراءة ما كُنا قد كتبناه مع أحبائنا من قبل.

 

وكما يقول شمس التبريزي: “كيف يمكن للعشق أن يكون جديرًا باسمه ما لم يختر المرء منه إلا الأشياء الجميلة، ويترك الأشياء الصعبة؟! فمن السهل الاستمتاع بالأشياء الجيدة، والنفور من الأشياء السيئة. يمكن لأي امرئ أن يفعل ذلك. لكن التحدي الحقيقي هو أن يحب المرء الأشياء الجيدة والسيئة معًا، لا لأنه يجب أن يتقبَّل الأشياء بحلوها ومرّها، بل لأنه يجب أن يتجاوز هذه الأوصاف، وأن يتقبّل الحبّ برمته”*.

 

—–

 

* من رواية “قواعد العشق الأربعون”.

المقالة السابقةاقتباسات امل دنقل، وارتحت في عينيك من عبئي
المقالة القادمةكيف تجهزي ملابس الشتاء؟ ملابس الشتاء للنساء، والرجال والأطفال
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا