امرأة واحدة لكل يوم

542

أستيقظ كل صباح في الخامسة فجرًا قبل موعد عملي المحدد، وقبل العصافير في السماء، وقبل نوبات غضب الصغار، وقبل أن تستيقظ رغبتي في التمرد على كل هذا.. أبتسم وأرتب فوضى الأمس، أرُص ألعابهم المبعثرة بالترتيب المفضل لديهم وبنفس الصبر ذاته، أحاول أن لا تتعثر خطواتي حتى لا تتحطم قلعتهم الوهمية، أمسح الأرض، أضع الغسيل في الغسالة وأنشر الغسيل، أقطع الخضار أعد الغداء.. ثم أتنفس قليلاً أحمد الله أنني انتهيت.  لأبدأ من جديد وأعد الفطور، أُوقظ الصغار، أخوض بعض المعارك الصغيرة معهم قبل أن أقلهم إلى المدرسة وأودعهم بابتسامة رائقة، لأصل إلى عملي في الثامنة والربع، لأنتهي في الرابعة قبل موعود تدريب الصغار، لنعود للمنزل ننهي الفروض المدرسية وأنتهي من حكاية قبل النوم.. لنعاود الكَرَّة في الصباح.

أستيقظ كل صباح كأرملة وحيدة تجلس في المطبخ تعد قهوة الصباح، يطل نصف صدرها من فتحة أعلى فستانها القصير، تنظر لانعكاس وجهها على سطح الثلاجة اللامع، وتتحسس تجاعيدها بفضول وبطء، تخترع أشخاصًا وهميين تحكي لهم قصصًا عن فرسان تلصصوا على وحدتها بعد رحيل زوجها ورفضتهم جميعًا، خوفًا من أن يجرح وجود أحدهم كبرياء أبنائها المهاجرين بعيدًا عنها، فتتذكر فجأة حياتها معهم، يمر كل شيء كمشهد عابر، فتبستم لوحدتها وتصمت، وتطيل النظر لضحك وبكاء الماضي في تجاعيد وجهها.

أستيقظ كل صباح كمنجمة تحترف ضرب الودع وقراءة الطالع، وأطرق باب كل امرأة هجرها زوجها، أنفض عنها الحزن وأبيعها الأمل، أخلق لكل منهن حكاية مناسبة، سأخترع حكايات عن رجل عادي جدًا بملامح عادية جدًا، أحَب امرأة واحدة وعاملها كما تعامل الرجال الحقيقية النساء، عندما يراها يملك رغبه جامحة في احتضانها، وعندما يذهب يتركها في حضرته. سأمنحهن ماضيًا أكثر رقة ومستقبلاً مطمئنًا ستخرج الحكاية من أعماقي محملة بكل الذكريات الطيبة التي عشتها، سأمنحهن السعادة ولو للحظات حتى لا يحترقن من الأسى والتجاهل.

سأستيقظ كل صباح كفتاة وحيدة ترتدي ملابسها الفضفاضة، تسرح شعرها على شكل ذيل حصان ضخم يتكور أسفل عنقها على استحياء، تسير بخطوات حاسمة في وسط المدينة وسط زحام من اللا مبالاة والكذب، ترصد حركات الأعين المتلصصة، حركات الأيدي السريعة والخاطفة، تحتضن صدرها، تضم ساقيها، تمشي بخطوات عسكرية، تتفادى كلمات الرجال التي تتحسسها رغم كل الحذر، تحاول أن تدافع عن نفسها، تولد الكلمات بداخلها كالنار وتنمو لتخرج من شفتيها كالرصاص، لتصطدم باتهامات الآخرين لها بالتبجُّح، فتصمت وتعود إلى بيتها مهزومة.

سأستيقط كل صباح كربة منزل عادية تفوح منها رائحة كل الطعام الذي أعدته في حياتها، توزع ساعات يومها بين المطبخ وترتيب المنزل، تعيش دائرة مغلقة من الأيام المتشابهة، تحاول أن تكسر الرتابة، فتضيف لمساتها السحرية على كل شيء، القليل من الخميرة هنا فينتفخ العجين النيء، القليل من التوابل التي تتعرف على رائحتها بعينين مغمضتين وسط صف مهيب من التوابل المنتقاة بمهارة، فيتحول الطعام إلى كرنفال من الفرح والألوان، تضع في الخلفية موسيقى صاخبة حتى لا يتسلل الملل إلى قلبها، فيفسد كل ما تفعله، فتكتشف دون قصد منها نشوة الانتصار على الرتابة.

سأستيقظ كل صباح مستعدة لخوض معاركي اليومية. سأتحلى بكل حيل جدتي للي ذراع الحياة، وسأتحلى بحكايات أمي عن نساء عائلتنا التقليديات والمتمردات، العاملات وربات البيوت، العاشقات والمخذولات في الحب، الوحيدات والمطمئنات في حضرة قلوب دافئة. سأتحلى بشغف ابنتي للحياة وبراءتها برغبتها الجامحة في زراعه قوس قزح صغير بجوار وسادتها، وستتحلى هي بحبى لها، سأحتمي بجدتي وأمي وابنتي ونساء عائلتي، سنشكل سلسلة متداخلة ومتماسكة من النساء متحليات بشجاعة حواء عندما واجهت خطيئة خروجها من الجنة وبدأت من جديد.. وسنواجه الحياة.

سأستيقظ كل صباح مستعدة لخوض معاركي اليومية.

المقالة السابقةلو كنت راجل كنت هحترم البنت
المقالة القادمةكدمة زرقا
صحفية وكاتبة مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا