امرأة كلها قلب

1057

“العزيزة ميس ليليان.. لم يسعدني شيء بقدر ما شاهدته اليوم، حتى تصورت أني أحلم بجنة الإنسانية التي أتخيلها دائمًا، حيث رأيتها اليوم حقيقة رائعة، فالعناية بالضعفاء من أطفال وأيتام وعجزة، بنين وبنات، رجال ونساء، تتجلّى هنا بكل ما في معاني الإنسانية من قوة، فشكرًا ميس ليليان وجميع العاملين بهذه المؤسسة”.

كانت تلك كلمات اللواء أركان حرب محمد نجيب للآنسة “ليليان تراشر”.

 

“ليليان تراشر” امرأة كلها قلب، لقبت في صعيد مصر بلقب “أم النيل”. خدمت أكثر من 15 ألف يتيم والآلاف من العجزة والأرامل، كانت أول من أنشأ ملجأ في مصر. والغريب أن “ليليان” ليست مصرية ولكنها أمريكية عشقت مصر وأهلها.

كانت “ليليان” مخطوبة لشاب أمريكي، عندما شاركته برغبتها للسفر إلى مصر، حيث كانت مثقلة بخدمة الفقراء في هذا البلد، فتركها وتخلى عنها، بينما انطلقت هي لتحقق رغبتها وتستجيب لنداء قلبها الملائكي.

 

أتت “ليليان” إلى مصر عام 1910 لتخدم الفقراء في محافظة أسيوط مع بعض الفتيات اللاتي أتين لنفس الغرض، ويشاء القدر أن تزور امرأة فقيرة تحتضر وتوصيها بطفلها الصغير، فتتعهد بتربيته، ما جعلها تترك صديقاتها وتستقل بسكن صغير خاص بها حتى لا تزعجهن برعايتها للصغير.

 

تمر الأيام ويزداد عدد الأطفال الذين بلا مأوى، حيث عرف الأهالي أنها تأوي الصغار، فكانوا يأتون لها بالأطفال الأيتام لترعاهم، لم يكن لـ”ليليان” أي دعم مادي سوى عطايا الأهالي والجيران الذين أحبوها وكانوا يقدرون ما تفعله مع الصغار. زاد عدد الأطفال يومًا بعد يوم ليتحول بيت “ليليان” الصغير إلى ملجأ كبير للصغار، يضم المئات بل والآلاف من الأيتام والذين بلا مأوى.

 

عانت “ليليان” كثيرًا، حيث قابلت العديد من المشكلات، منها قلة الموارد، فكانت تدبر الوجبة للصغار ولا تعلم كيف ستسدد وجبتهم التالية. قابلت “ليليان” أيضًا مشكلات الاستعمار البريطاني والثورات والأمراض والأوبئة، ورغم ذلك أخذت على عاتقها أن لا ترفض أي طفل يقصد الملجأ.

كانت تجوب القرى تركب على حمار لتجمع للأطفال الغذاء والتبرعات. عُرفت “ليليان” وذاع صيتها، هذه المرأة الجميلة الممتلئة بالحب والتي كرَّست حياتها لهذا الهدف النبيل.

زارها أيضًا الرئيس جمال عبد الناصر وسطر لها: “أكتب لكِ شاكرًا. وأريد أن أخبرك أن عملك مع الأيتام يُقدره كل مواطن في هذا البلد، وأتمنى لك استمرارية النجاح في خدمتك الاجتماعية”.

 

أصبح الملجأ اليوم مؤسسة ضخمة مزدحمة يضم عددًا من الأبنية، فهناك المدرسة والمستشفى والمباني الخاصة بالأولاد والبنات، وقسم الرضع والأطفال، والمزرعة، وحمام السباحة. وتخرج من الملجأ الآلاف من الشباب والشابات الذين تلقوا تعليمهم على أعلى مستوى داخل البلاد وخارجها.

وأصبح للمكان شهرة كبيرة في أسيوط وفي مصر كلها، وهو معروف حتى الآن كأكبر ملجأ على مستوى العالم، عندما تدخله تشعر أنك دخلت بالفعل “مدينة الملجأ”، حيث الهدوء والسكينة.. مدينة أسستها امرأة خدمت وقدمت الحب لكل محتاج.

 

عُرفِت هذه الخدمة في مصر من يومها، وأُنشئت العديد من الملاجئ المماثلة لتأوي العديد من الأيتام في مصر.. وعرف أيضًا مصطلح الجمعيات الخيرية.

أدركت “ليليان” هدفها وعاشت من أجل ما تؤمن به، أن تقدم الحب للإنسانية ولا تنتظر المقابل. لم تتزوج ولم تنجب، ولكنها صارت أمًّا للآلاف من الأطفال.

 

قضت “ليليان” خمسة وخمسين عامًا في حب أطفال مصر، لترحل عن عالمنا عام 1961 ويودعها الآلاف “وداعًا ماما ليليان”، فقد صنعت جنتها المرجوة، جنة الإنسانية. يسكنها كل من فقد الحب والحنان والمأوى والرعاية، ليجد في “ماما ليليان” ما يفتقده. يجد القلب المُحب والملجأ الأمين. لقد كانت بالفعل امرأة كلها قلب.

المقالة السابقةعن “حسن” و”كريم” و”محمود”.. أولاد الشارع والقلب
المقالة القادمةيوم اليتيم.. هنعمل حفلة للوجع

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا