الله يسُكننا

745

طاقة رحمة فتحت لي حين ذهبت إلى تلك السيدة البرتغالية، التي اختارت لنفسها بيعًا خاصًا يقترب من الأرواح والطاقات، وحمل وجهها سردًا خاصًا لما رأته في الحياة، حتى تجد طلتها الساحرة كاشفة لما تفكر فيه، هي فقط تصدق ما تفعله، وقد لا تجتهد في محاولة إقناعك بما تقعله قدر ما تحاول أن تساعدك لرؤية العالم بشكل جديد. وجدتها تبحث داخلي عن شيء ما لم أنتبه له إلا مع تلك الجملة، التي وجدتها من أروع ما سمعت على الإطلاق، الجملة التي إن ملكت أمر العالم لوضعتها في مصاف الكلمات التي تخبرك بمعنى الإيمان الحقيقي.

ببساطة لم أعتدها، وجدتها تنظر في عيني وتقول بالعربية المكسرة إن ما أعانيه من خوف دائم على ابنتي وما هو قادم، هو محاولة مني لإخبار الله أنني لا أثق فيه.. هكذا مجرد إحساسك الدائم بالخوف هو في الأساس حديث قلب بأن “الناموس الأعظم” لمن يسميه أحيانًا، أو “الله” الواحد كما يؤمن أصحاب الديانات السماوية، لن يحميك، الجميع تحت تلك المظلة التي إن اختلفت أسماؤها، لكنها قوة إيمان موجوة حقًا.

يبقى لنا سؤال: أين هو مكان الله؟ ليس ذاك السؤال البديهي الذي طالما سألناه ونحن صغار، بل هو ذلك السؤال المنطقي تمامًا لمن في أعمارنا المثقلة، لمن تعرض لكل تلك الأحداث في الحياة، وشاهد أحداث غيره ويشعر في كل مرة أن هناك مُخرجًا كبيرًا يدبر كل شيء، كتدبير الأمر من السماء إلى الأرض التي تحملها عقيدة الإسلام. إذًا الله يوجد في السماء، أليست السماء ساعي بريدنا لكل تلك الدعوات التي نغذقها يوميًا ونرسلها نظرًا أو قلبًا أو حكيًا؟!

السماء.. المكان المرتفع الذي استدعى معه كل ذلك الحكي في آيات القرآن الكريم والإنجيل أو الكتاب المقدس والتوراة، ذلك الوصل المميز بين البشر والقدير، وصل من نوع خاص يجعل الاكتفاء بالنظر إليها في حالات الشكوى هو دعوة يستجيبها الله.

البعض يرى أن وجود الله ليس ذلك الوجود الذي نتوهمه، كما لو كنا نجيد المعرفة، وإذا صعدنا إلى السماء لوجدناه ينتظرنا، فكيف هو وجوده إذًا؟ كيف هي تلك الحالة التي تجعلنا نقترب منه في لحظة نصل بها إلى السماء، ويقول لنا جلال الدين الرومي منذ مئات السنين “يمكن لمس السماء بقلبك”، يالله! هي حقيقة إذًا.

كيف هو ذاك الوجود الأعلى؟ وأين يقع؟ كيف يقترب منا حد الوريد في نفس الوقت، فيعلم ما تخفي الأعين والأنفس، ويعلم ما في الصدور؟ كيف لقربه أن نلمسه؟ هل هو في المساجد، أم الكنائس أم المعابد؟ كيف وجوده داخل كل تلك المنازل من أول الخليقة وحتى النهاية؟ لأن القلب هو مصدر المحبة فهو يسع الله، سعة تجتهد في المحبة وتسكن.

إذًا هو القلب؟ تمامًا، علمت أخيرًا، ذلك العضو القريب منه، تلك السيموفونية الخاصة بكل منا حين ينفصل عن العالم ويُحدِّث ربه ويصافيه، أيًّا كان المكان، ويليه ذلك الشعور الكبير بالارتياح، “شفت ربنا” تلك الجملة التي لها وقع خاص على العقول قبل القلوب، حين يباغتنا إنصاف راودنا دون أن نعلنه، أو طلب تمنيناه وكتمت النفس الأمنية، فيكون رد الفعل الممتن “شُفت ربنا يا أخي!”.

الله.. الأقرب إلينا، والذي وضعه المعتقد القديم للمصريين القدماء “الواحد الذي أصبح مليونًا”، فيسكن داخل كل شخص، ذلك السكون الذي نردده حين يرحل أحدهم “ربنا كان في قلبه”، وهي الجملة التي تنم عن علاقة خاصة بين العبد والمعبود، علاقة بين الحي والمخلوق، حتى أن معادلة قدماء المصريين قالت إن وفاة الشخص تجعل روحه تتحد في روح الإله، حتى تلازمه ليلاً ونهارًا.

أفضل أن أرى الله داخلي، حتى وإن وجدت نفسي لا إراديا أرفع يدي إلى السماء وأنا أطلب منها شيئًا ما، أو أشهدها على خاطرة بعينها، هو داخلي يسكنني، ويسكنكم، الله يسكننا جميعًا، “احمل صفاته وإنت راح توجده” كما قال الشاعر المصري العبقري صلاح جاهين. لم يكن سؤالنا الساذج ونحن صغار مجرد فضول، بل هو حق، وما زلنا نسأل أين الله، ولأن كل معادلاتنا هي مجرد تصور فأنا أطمئن إلى تصوري.. الله يسكننا، لذا هو يسمعنا حد الإنصات، يعطينا أحيانًا ما لا تطلبه ألسنتنا وينادي به القلب فقط، يرزقنا ما وقعت عليه الأعين وارتابت ممن حولها فحولت النظر إلى شيء آخر حتى لا ينتبه مخلوق، لكن الله الخالق أجاد الرؤية، سبحانه، واحتفظ بالأمنية، كما احتفظ بما يكمن في ضمائر البشر، شرًّا وخيرًا.

أطمئن إلى ذاك التصور، وأستعد للإجابة على سؤال ابنتي ذات السنوات الأربع، إن سارت على نفس الدرب وسألتني “ربنا فين يا ماما؟” سأخبرها: “الله يسكننا يا حبيبتي”.

المقالة السابقةأولويات كل صباح
المقالة القادمةما هو جواز الصالونات؟ وما خطواته وعيوبه، هل يعتبر من الأشكال الناجحة للزواج
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا