القذف بحجارة التنمر

664

بقلم/ سمر صبري

 

كمن يقف على مسرح ويلقيه الجمهور بحجارة مصحوبة بصيحات استهجان.. هل تتخيل وقع الحجارة على الجسد لحظة الارتطام؟ هل تستشعر الألم النفسي من دوي صيحات استهجان تخبرك أنك سيئ؟ غير مقبول؟ هكذا هو التنمر.

 

أنت تعرف نفسك وقدراتك أفضل مما يعرفها الآخرون

يحجز أخي الأصغر مكانًا في مركز للدروس الخصوصية لمادة الكيمياء، مع ذلك المدرس الشهير بين طلبة الثانوية العامة. أن تجد مكانًا مع ذلك الأسطورة فأنت محظوظ، ومحظوظ مثلك مهدد في أي لحظة بأن يفقد تلك الفرصة الذهبية إن لم يكن على مستوى معين من التفوق في المادة. المسألة برمتها لعبة أعصاب على الطالب، ولعبة حفاظ على الاسم للمدرس على طريقة: “أنا لا أقبل طالبًا ضعيفًا لأظل أسطورة الكيمياء”.

 

يخطئ أخي في أحد اختبارات الأسطورة الدورية، فيفقد عدة درجات تجعله في نهاية الأمر يتلقى توبيخًا علنيًا وسط زملائه. لم يتذكر أخي أيًا مما قاله له المدرس حينها سوى: “أنت غبي”. انتهى الموقف، وصدى صوت المدرس يتردد في ذهن أخي على مدار أيام: “أنت غبي.. أنت غبي”. يأخذ أخي القرار الصعب بتغيير المدرس في وقت قاتل من السنة الدراسية، لأنه يعرف أنه أخطأ فقط، ربما لم يستعد جيدًا للامتحان، لكنه يثق أنه ليس غبيًا، ويرفض أن يوصمه أحد بالغباء أو أن يعامله بشكل مهين.

بعد تغيير المدرس، يفقد أخي في امتحان الوزارة في نهاية العام درجة ونصف فقط في مادة الكيمياء، يتذكر الأسطورة ويبتسم ابتسامة المنتصر.

 

لكل شيخ طريقة.. نحتاج فقط للثقة في طريقتنا

في سنوات المراهقة بدأت أكتشف شغفي بالطهو. أظن أن هنالك بُعدًا نفسيًا في الأمر، إذ أتصور دومًا أن تحويل عدة خامات لوجبة شهية في النهاية أمر يخبرني بأني ما زلت قادرة على صنع شيء جميل.. قادرة على السيطرة. يثير الطبخ شغفي يومًا بعد يوم، فأنتهز كل فرصة لأقف في المطبخ مع بعض المعارف في المناسبات الاجتماعية لمراقبة ما يصنعونه بشغف كبير، وبحماسة مراهقة تريد مزاحمة الكبار، أحاول مشاركتهم في الطبخ لاستعراض مهاراتي. أُقابل بشيء من عدم الترحاب، لأن ثمة خطوات كلاسيكية معهودة في الطبخ لا أتبعها. أعرف جيدًا هذه التعليقات، أعي جيدًا معنى تلك النظرات التي تخبرك بأنك مجرد مبتدئ وغير جيد كفاية لتكون هنا وسط الكبار، أنسحب من المشاركة في الطبخ وأكتفي بالمشاهدة في هدوء، أو بالأحرى أنسحب في خيبة أمل.

 

تمر سنوات لم أمتنع فيها عن الطبخ، لأكتشف مع الوقت أن طريقتي المختلفة عن طرقهم تصل بنا جميعًا في النهاية لنفس النتيجة.. لنفس الوجبة؛ أستعيد ثقتي فيما تعده يداي، وأحبه أكثر لأنه يذكرني في كل مرة أنني لم أمتنع عن مواصلة شغفي بالطبخ، على هامش الطبخ لُقِّنت درسًا حياتيًا مفاده أن ثمة أشخاصًا لا يمكنهم الشعور بأنهم جيدون إلا من خلال الانتقاص من غيرهم، وعلى هامش الطبخ تعلمت أن الانسحاب من محيط هؤلاء مكسب.

 

التشكيك في قدراتنا سيصاحبنا طوال الوقت.. فقط ينجو مَن لا يلتفت

تمر صديقتا العمر في فترات مختلفة -بحكم كونهما أُمَّين شابتين- بهزات نفسية قاسية للغاية، ليس لضغوط الأمومة وأعبائها، وإنما لضغوط مجتمع قرر أن يتدخل أفراده -دون مساحة حتى تسمح بهذا التدخل- للنيل من صديقتَي. التجويد يلاحقهما طوال الوقت، التشكيك في قدراتهما والانتقاص منهما كان الصديق الدائم في سنوات الأمومة الأولى تحديدًا. خانة الوصم اتسعت لتشمل كل الأوصاف التي من شأنها أن تُسقط صديقتَي وأي أم شابة فريسة سهلة للشعور المفرط بالذنب.. لقضاء الليل بطوله، وليالٍ طويلة تعقبه في مواجهة السؤال القاسي: هل أنا أم جيدة؟!

 

إن كنتِ أمًا شابة فبلا شك أنتِ لا تعرفين شؤون تربية الأطفال كما ينبغي، لا يهم إن كنتِ توقدين كل أصابعكِ شمعًا من أجل طفلك، لا تهمنا قراءتك ليل نهار في التربية الحديثة، لا يخبرنا الإنهاك البادي على وجهكِ بأنك تبذلين قصارى جهدكِ، ما نعرفه فقط كمجتمع أنكِ قطعًـا وبلا شك أم غير مسؤولة.. غير واعية.. غير ناضجة.. مهملة. بإمكاننا حتى تحوير أي موقف لكِ مع طفلك لإثبات ذلك، لا يمكنِك منافستنا، نحن بارعون في ذلك.

 

التشجيع يعيد إطلاق أجنحتنا التي قصَّها آخرون

يخبرني أحد معارفي عن صديق له غير ماهر في لعب الكرة، في كل مرة يجتمع الأصدقاء للعب الكرة يكون فيها ذلك الشخص مثارًا للسخرية بسبب مهارته الكروية المحدودة، وعدم قدرته على الجري بسرعة لمسافات طويلة. تزداد التعليقات السلبية في كل مرة، لكنها لا تثني هذا الصديق عن تكرار وجوده مع أقرانه حينما يتجمعون للعب الكرة. ربما لم يكن يبدي انزعاجه من تعليقاتهم أملاً في الحصول على صك القبول منهم لصداقته.. عساهم يتقبلوه يومًـا لاعبًا بينهم دون أن يسخروا منه.

 

يخبرني راوي الحكاية أنه لم يتمكن يومًا من منع الأصدقاء من السخرية من صديقهم، لكن كل ما كان في وسعه أن يثني على تحركات هذا الصديق بالكرة، علّه بذلك يوازن ولو بقدر صغير تعليقاتهم السلبية بتعليق واحد محبب. يسترسل في حكايته ليكمل لي: “كان بيفضل طول الطريق يسألني وهو فرحان: يعني بجد لعبت حلو زي ما قلتلي؟ بجد؟”.

 

نقف جميعًا يوميًا على المسرح في تجارب أداء حياتية، بينما نُقذف بحجارة التنمر من كل جانب، لا مفر.. لن يسلم أحدنا مهما كان بارعًا فيما يُقدِّم. قد تكون الحجارة كلمة.. نظرة.. أو ابتسامة سخرية تخبرنا أننا غير جيدين كفاية، لكن الأمل يبقى دومًا في أولئك الذين يخبروننا أننا أفضل مما يُقال عنا، مَن يساعدوننا على ألا نستسلم لألم الحجارة التي نُقذف بها، الأمل.. كل الأمل في مَن لا يسخر.. ولا ينتقص من غيره.. ولا يوصم الآخرين بما يؤذيهم، أولئك وحدهم كمن ينزل الستار لتمنع حجارة الجمهور من الوصول لمن يقف على المسرح.. هكذا هي إماطة الأذى عن قلوب الغير.. هكذا هو التصدي للتنمر بالآخرين.

المقالة السابقةاسمع للصوت اللي جواك
المقالة القادمةوجوه تجعل للحياة معنى

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا