بقلم/ مروة سعيد
لم تستطع شيماء أن تجد موطئًا لقدمها؛ طلاب المدارس محوا آثار الطريق أمامها، كل ما تراه رؤوسهم الصغيرة وحقائبهم الدراسية التي تثقل ظهورهم، يتقافزون حولها ويصطدمون بها فتقول في تأفف "رجعنا لقرف المدارس تاني"، تنظر إلى ساعتها تجدها تشير إلى الثانية ظهرًا، عليها أن تجد وسيلة مواصلات سريعة تصل بها لوجهتها.
لديها اليوم "إنترفيو" ولقد نسيت تمامًا أنه يتوافق مع أول أيام السنة الدراسية "أهم حاجة أوصل في معادي.. عشان يعرفوا إني ملتزمة"، تؤكد لنفسها ثم تدير بعض الحسابات في ذهنها، لتجد أنه من الحماقة أن تهدر مالها في أجرة تاكسي وهي لا تملك سوى مئة جنيه في محفظتها يجب أن تكفيها لآخر الشهر، ثم أن الطريق مزدحم في كل الأحوال.
يقطع حبل أفكارها صوت كلاكس ينبهها بوجود حافلة تحمل لافتة رمسيس، تقف على ناصية الطريق.. "هركب أتوبيس ولما أوصل أبقى أظبط شكلي ولبسي في الأسانسير وأنا طالعة"، طمأنت نفسها بتلك الكلمات وأسرعت خطاها متفادية تلك الكائنات الصغيرة.. صعدت الدرجات الثلاث الصدئة وهي تحتضن حقيبتها بحرص، يتشبث بطرف الباب خلفها شاب يبدو أن لديه بعض الميول الانتحارية، ويستمر في الهتاف الذي لا ينقطع "رمسيس رمسيس فاضية رمسيس رمسيس" تعطيه أجرته ثم تبدأ رحلتها الاستكشافية داخل أعماق الحافلة.
تجد "شيماء" صعوبة في التنفس للوهلة الأولى، ثم تعتاد على رائحة العرق الرطبة وتختار بقعتها بعناية، تقف بجوار امرأة مسنة ترتدي عباءة سوداء وتمسك بيدها، بوك أحمر على شكل فيونكة.
تمتلئ ردهة الحافلة في لمح البصر. يتلاحم فيها أجساد الراكبين ولا يمكنك أن تجزم أبدًا من أين يبدأ جسد الشخص وأين ينتهي. كتلة بشرية واحدة ضخمة تتحكم بها إطارات الحافلة، تقودها إلى مصير واحد.. إلى رمسيس.
كل شيء يسير كما خططت له "شيماء"، ولكن صوت الفرامل الصارخ أكد لها أن الأمور لن تكون بهذه السهولة.
مالت الكتلة البشرية للأمام ثم أُرجِعت إلى الخلف مرة أخرى، في حركة خاطفة كتطبيق عملي واضح لقوانين الفيزياء الصارمة. تشبثت "شيماء" بالمرأة المسنة حتى لا تفقد توازنها "معلش يا حاجة أنا آسفة".
"آسفة إيه! ملختي دراعي منك لله" قالتها المرأة بصوت مرتفع وحاد.
لم ترد "شيماء"، فهي في النهاية في سن والدتها ويجب أن تراعي هذا.
ثم ساد الصمت للحظة توقف صوت موتور الحافلة المزعج، وحل مكانه صوت مشاجرة محتدة.. التفتت "شيماء" خلفها لتنظر من النافذة حتى ترى ما الأمر.. كل الأعين ملأها الفضول، وكل الرؤوس وجهت لليسار تجاه صوت المشاجرة. وكلها تبحث عن زوايا أفضل تتابع بها ما يحدث.. "مش وقت خناق خالص يا أسطى إحنا متأخرين"، هتف أحد الركاب ولكن السائق لم يُعِره أي اهتمام وأكمل مشاجرته.. "هو إيه اللي حصل؟" تسأل "شيماء" فيجيبها نفس الراكب "ولا حاجة، مرة واحدة وقف في نص الطريق لما شاف الراجل ده بيعدي الشارع، راح نازلّه ومسك في خناقه".
بينما كانت "شيماء" تتساءل كيف ستصل إلى وجهتها بدون أن تتأخر، كان الجميع يتساءل عن سبب المشاجرة.. ينظرون للمشهد بنوع من الحماسة والنهم، السائق عاري الجذع يمسك بيمناه سلاحه الأبيض، بينما يقف غريمه أمامه أعزل، ولكنه وجد زجاجة مهملة على الأرض كسرها واستخدمها كسلاح مضاد، وبينهما يقف الشاب ذو الميول الانتحارية.. يحيل بينهما مضحيًا بنفسه من أجلهما.. يتطوع بعض السائقين المارين بأن يساهموا في فض الاشتباك فيتركوا عرباتهم في منتصف الطريق، مما يطيح بأمل أي شخص يطمح أن يصل إلى رمسيس في تلك الساعة.. تتعالى أصوات الكلاكسات خلفهم ولكن المشاجرات لا تؤخذ على عجل.. يجب أن تكتمل أركانها بصياح وهتاف وسباب ولن يضيرها شيء إن حدثت بعض الإصابات البسيطة كالجروح والكدمات وإصابات الرأس.. شعر الرجل ذو الميول الانتحارية بالخطر، فانسحب تاركًا مكانه لشخص آخر من الفدائيين.. وصعد على متن الحافلة ليلتقط أنفاسه.. تهافت عليه الركاب كالصحفيين الذين يبحثون عن سبق ما.. سألوه بشيء من الفضول والتطفل عن سبب الخلاف، فيجيبهم كالخبير العالم ببواطن الأمور مشعلاً سيجارته بتأنٍ "ده جوز أخته.. طفشان من البيت بقاله شهر ومكانوش عارفينله طريق، سايبلهم مراته بعيالها وفص ملح وداب.. ده ما صدق لاقاه ومش هيعتقه".
يتحول الأمر إلى حوار مجتمعي حول ظاهرة الرجل المتخاذل، وعن أسباب وجودها من الأساس.. منهم من يتهم الحكومة ومنهم من أدان التربية وتقصيرها في تعليم الرجل تحمل المسؤولية، ولكن الرأي الأكثر ترجيحًا كان أن زوجته لم تكن بالحكمة الكافية حتى تصون زوجها وبيتها.
"أكيد مش مرياحاه" قالتها المرأة المسنة، مما جعل "شيماء" تمقتها بشدة.
"لو سألتوني عن رأيي كرجل قانون هقول إنها ممكن تاخد حقها في المحكمة وبالقانون، لكن أخوها العربجي ده هيضيع حقها"، قالها رجل في آخر الحافلة بصوت جهوري مرتديًا بدلة رمادية باهتة وقطرات العرق كانت تغطي جبينه وتزداد مع ازدياد درجة انفعاله.
لم تشارك "شيماء" في كل تلك الحوارات.. كل ما كانت تفكر فيه كيف ستصل. هل الوقت تأخر على أن تترك الحافلة؟ هل ستنتهي المشاجرة عما قريب؟ لا يبدو هذا.. تعزم أمرها أن تترك الحافلة وتبحث عن أي شيء آخر يحملها إلى رمسيس.. وبمجرد أن أخذت خطوتها الأولى تجاه الباب بدأت المرأة المسنة في الصراخ الهيستيري "البوك بتاعي فين؟ أنا اتسرقت.. إنتي اللي سرقتيني يا حرامية"، بدأت بجذب "شيماء" من ذراعها ومن حقيبتها. لم تدرِ "شيماء" ماذا تفعل، كانت تشعر بالصدمة "مين دي اللي حرامية؟ إنتي اتجننتي يا ست إنتي؟".
يخترق رجل القانون صفوف الراكبين حتى يشهد على حسن سير عملية التحقيق.
يقترب من "شيماء" هامسًا في أذنها "أنا مكن أطلعك منها بس قوليلي سرقتيها ولا لأ"، يخرج كارتًا صغيرًا عليه اسمه وهاتفه يضعه في يدها خلسة.
لم تستوعب "شيماء" كل ما يحدث، تبدأ هي الأخرى في الصراخ الهستيري "أنا مش حرامية يا ست يا مجنونة.. وتطلعني منها إيه إنت كمان؟!".
"خلاص أنا كنت عايز أنقذك، الست دي معاها حق، أنا شفت البت دي وهي بتسرقها".
وقال رجل القانون كلمته.. فحكم عليها هيئة المحلفين المتمثلة في مجتمع الحافلة الصغير، بأن تفتش ذاتيًا بحثًا عن البوك المفقود. تقف عاجزة أمامهم وتنصاع لهم في النهاية، فتترك حقيبتها تفتش بدقة حتى تخرج من هذا الجحيم، وتترك امرأة أخرى تمرر يديها على جسدها حتى تطلق سراحها.
ترى المرأة تعبث بمحتويات حقيبتها، وبعد أن فرغت من إجراءتها الأمنية قالت بصوت يائس "ملقتش حاجة.. هيكون راح فين بس؟!".
اختطفت "شيماء" حقيبتها بعنف ثم مزقت كارت المحامي وبعثرت أوراقه الصغيرة في وجهه.. انقسمت الكتلة البشرية أمامها نصفين حتى يمهدوا طريقها إلى الباب.. تهبط الدرجات الثلاثة الصدئة محتضنة حقيبتها.. بمجرد أن تهبط تجد ساعتها تشير إلى الثالثة "لازم أكلمهم أبلغهم إني اتأخرت عشان الطريق.. أكيد هيقدروا" تحاول أن تطمئن نفسها بتلك الكلمات.. أخذت تبحث عن هاتفها داخل الحقيبة لم تجده، بحثت عن محفظتها ذات المئة جنيه لم تجدها أيضًا.. لم تجد في حقيبتها سوى بوك أحمر صغير على شكل فيونكة.. ووجدته فارغًا.