السيدة الصامتة أخبرتني.. لا شيء محض صدفة

1453

منذ عامين أذهب بشكل يومي إلى منطقة الزمالك، أصطحب ابنتي إلى المدرسة وأمر دون قصد على بيت كبير، تجلس في شرفته سيدة مُسنة يظهر من ملامحها الهادئة أنها كانت فتاة جميلة في زمن عابر، لا تفعل شيئًا في الشرفة إلا الجلوس، وتعتاد النظر إلى العابرين من تحت الشرفة والاستماع إلي صرخات تلاميذ المدارس الموجودة في الشارع الذي تسكن فيه، كما لو كانت نداء غامضًا من حياة سابقة.

 

يوميًا أمُر بالمكان وأتأمل السيدة الآتية من بعيد، أرى أحيانًا لمحات اندهاش على وجهها الذي غطته التجاعيد عن طيب خاطر، كما لو استأذنت صاحبته الجميلة أولاً، تنزعج أحيانًا إذا صرخ أحد التلاميذ أو سب زميله وتدخل وتغلق الشرفة ولا أراها إلا اليوم التالي، وفي إحدى المرات وجدتها تأتي بالفرشاة وتلون حديد الشرفة وهي تبتسم، كما لو كانت تحلب بهجة ما لم تعد تملكها. وجدت أحد أصحاب المحال المجاورة لبلكونتها القريبة من الأرض وهو يعرض عليها المساعدة، لكنها أشارت له لتخبره أن الأمن مستتب وهي غير متعبة.

 

كانت الألوان التي تفرشها السيدة العجوز هي الأزرق بدرجاته، والأخضر والفوشيا.. وفي اليوم التالي كان الكون يحمل لحظة حماس فائتة، منحت صاحبتها وقتًا كبيرًا مضى في تلوين العالم من حولها، وإن كان مجرد شرفة بيت، ولك مطلق الحرية في تخيل جدران ممتنة لعجوز.

 

بعد أيام عدة أطلت الوقوف أسفل الشرفة وأنا أبحث عن السيدة العجوز، ولم أرها. وجدت الشبابيك القديمة مُغلقة ولا أحد هنا، تخيلت أنها من الممكن أن تكون قد سافرت مع أسرتها، التي لم أرها طيلة العامين ولا مرة أسفل المنزل المكون من دورين، ولا حتى يجلس أحدهم معها ولو مرة. لكن الوقت زاد والسيدة لا تظهر والشبابيك مغلقة، والألوان بدأ يكسوها التراب، وقد بدأت ابنتي تستعد من أجل إجازة كبيرة من المدرسة، ولن أمر من هنا لوقت طويل.

 

فما كان مني إلا الذهاب إلى المحل المنتبه لها لأسأله عنها، فكانت الإجابة أنها رحلت، رحلت إلى الأبد. المفارقة أنني علمت أن أخاها كان يسكن في المنزل المواجه لمنزلها.

 

لقد ماتت السيدة الجميلة، تركت الألوان الحديثة التي أحبتها وتركت الشرفة الكبيرة بتقاسيمها المميزة، لتخبر المارون كيف كان شكل الزمن العابر، وكيف اهتم المهندس باتساع مكان يطل على العالم ليرى منه أصحابه الشارع ويشعرون الحرية في التأمل.

 

رحلت وتركتني ولم أتحدث معها ولا لمرة واحدة، وكأنها تخبرني “لا شيء محض صدفة”، خصوصًا حين أغلق العاملون في حفر المترو في نفس التوقيت المدخل ولم نعد نعبر من أمام منزلها، تركت معي كل هذه اللحظات من المراقبة المحبة لها، دون أن أخبرها أنها منحتني الكثير من الود وهي لا تدري، كما منحتني تخيُّل حياتها، وحدتها، حبها العابر، أبنائها من فاتهم يوميًا الجلوس معها في شرفتها المخلصة.

 

تركتني أتخيل عالمها الآتية منه وانزعاجها من أصوات العالم الحالي، تركتني أُكِن لها الكثير من المحبة والحكي الذي وددت لو أرن جرس منزلها لتخرج وتُجلِسني معها لتهوِّن عليَّ ما يحيرني ويشغلني وأخشاه، تروي لي كيف أواجه العالم وأنا ابنته، وكيف واجهت هي سنينها حتى أتى بها الزمن إلى هنا، كما لو كانت تلعب شخصية مراقب قطار يمر دون صوت فقط يسجل حركة مروره.

 

قد تكون القصة لا تهم أحدًا قدر ما كانت ملهمة لي، فقد يأتي عليَّ زمان أجلس مثلها أراقب القطار كما فعلت، وأنزعج وأبتسم دون حاجة إلى إصدار صوت لابتسامتي. قد أصبح مثلها يومًا أبحث عن حيل نفسيه تمنحني بهجة لحظية كألوان مطمئنة على جدران أجادت معاشرة امرأة وحيدة، لم تمل أو تميل عن مصاحبتها.

 

حين رحلت إلى الأبد

 

المقالة السابقةالداعم الأول
المقالة القادمةالأنثى التي بداخلي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا