خلق الله جسد آدم من الطين، ونفخ فيه من روحه، ثم أدخله الجنة. وفي جنة الله كانت تلك الشجرة التي حَرَّمها على آدم، لم تكن تلك الشجرة لتضر آدم أو تصيبه بمكروه، ولم تكن أفضل الأشجار، بل فقط كانت ممنوعة.
ولكن لم تكن الشجرة إلا رمزًا دافعًا يحفز نفس آدم أن تخرج إلى النور وإلى مراد الله، فهي من خلق الله أيضًا، حتى وإن كانت الدافع لكل الشرور، فقد رفضت نفس آدم سلطة الله في المنع، ودفعته كي يأكل منها.
من تلك اللحظة، كانت بداية تاريخ بني البشر في أول صراع في البشرية، صراع بين الروح التي تنتمي إلى الله، والجسد الذي يصارع للنجاة، والنفس التي تدخل كل الصراعات لجمع أكبر قدر من المكاسب، سواء مكاسب مادية أو نفسية، ولعل المكاسب النفسية هي صراعها الأفضل.
فالروح هي الأصل في بني البشر، وهي الواصلة بالله دون أي حاجز، منه وإليه، تتحلى بصفاته، فمن أكرم فقد أكرمت روحه، ومن أحب بصدق فقد أحبت روحه، ومن غفر ورحم ووهب وأعطى، ومن جاء بالخير فهو من الوصال الذي بينه وبين الله، مهما كانت الديانة أو العقيدة أو الأفكار، فالروح لا تؤمن إلا بالخير ولا تطلب المقابل له، فهي تعطي كما يعطي من هي منه، فهي من الله وإلى الله.
أما هذا الجسد اللحوح الذي لا يكف عن الاحتياج، فهو يبحث عن مراده دون أي ميول، يشعر بالجوع فلا يهتم بأي شيء غير الطعام، يبحث دائمًا عن الإشباع الذي لا يناله أبدًا، والمتعة اللحظية هي أقصى ما يبحث عنه، الشراب والطعام والجنس، فقط ما يريده، فهي وسائله الأساسية كي يستطيع البقاء، فلا يهتم كيف يبقى، ولا يشغله خير الروح ولا ملذات النفس.
أما عن النفس، فحدث ولا حرج، فهي بطلة القصة التي تدور حولها الأحداث.
دعونا أولاً نتعرف على تلك النفس التي تسكننا، ونحاول أن نفهم ونتدبر لماذا خلقها الله فينا!
النفس تشبه الأم المفسدة، الأم التي تدلل طفلها وتحاول حمايته من أي شيء يعكر صفو حياته، بل تقف بجانبه مهما كان ظالمًا أو مذنبًا، لتجد له كل المبررات التي يحتاجها كي ينام قرير العين هادئ البال.
كان هذا أقرب تشبيه لتلك النفس، التي خلقها الله لنا كي تحمينا بالفعل، ولكن عندما نتركها تبالغ في حمايتنا تكون هي المفسدة، فعندما تطالب بحقك فإن النفس داخلك هي من ترفض أن تشعر أنت بالظلم فتدفعك لأخد حقك، ولكن عندما تتكبر عن الاعتذار أو ترفض التفاوض والتعاطف أو تشعر بالفخر الشديد أو تشعر بأنك الأفضل، فهنا تلعب النفس دور الأم الفاسدة، وتمنعك من الشعور بأي ذنب في سبيل حمايتك من الألم، حتى وإن كان ألمًا صحيًا يجعلك تتوازن في الحكم على الأمور ببعض من العدل.
وبهذا تتضح الرؤية، فنجد الجسد في صراعه الفردي للبقاء على قيد الحياة، أما ما بين الروح والنفس هو الصراع الذي تنبع منه كل الاضطرابات النفسية، روح تريد الخير أينما كان، ونفس لا يهمها غير أنت، أنت فقط.
ولكن إن حاولنا الاقتراب أكثر من غايات الروح والنفس، سوف نرى الحب والخوف هما الغريمين الأقوى.
الحب بالمفهوم المجرد هو القدرة على السلام النفسي والتسليم، وأيضًا هو العطاء غير المشروط، فالحب هو غاية الروح، والنفس لا تعرف إلا الخوف، الخوف من الآخر، الخوف من الغد والمستقبل، الخوف من القيل والقال، الخوف من الظلم والألم، فكل ما يحركها ويدفعها لمزيد من محاولات حمايتك هو الخوف.
ابحث في حياتك عن الغاية.
هل تعمل هذا العمل محبًا له، أم خوفًا من تركه ومن مستقبل مجهول؟ هل تزوجتِ راغبة في هذا الرجل أم خوفًا من القيل والقال؟ هل استمرار زواجك لغاية الاستمرار مع تلك السيدة أم خوفًا من الانفصال؟ هل ترفض لابنك تلك المهنة حبًا له أم خوفًا على مستقبل لا تريده أنت؟ هل تتصدق حبًا للخير أم خوفًا من أن ترى نفسك سيئًا؟ هل تساند الآخرين حبًا دون مقابل أم خوفًا من ألا تكون مُهمًّا بشكل يرضيك؟
الأسئلة لا تنتهي، فلكل منا غاياته من الحياة، ولكن السؤال المطروح دائمًا هو: لماذا؟ لماذا أنت هنا؟ ولماذا تفعل هذا؟ حبًا أم خوفًا؟ والإجابات هي التي تضع نهاية لهذا الصراع، بين الروح والنفس، بين إرادة الله فيك ورفضك للتسليم لما يحدثك به حسك أنت.
ولكن لماذا خلق الله هذا الصراع المهلك أحيانًا؟
من وجهة نظري إنه صراع ضروري، فالروح تصلنا بالله وهو الأصل فينا، والنفس تصلنا بالحياة ومتطلباتها النفسية كي تحمينا من الألم، والخروج السالم من هذا التلاحم، هو أن نعطي لكل ذي حق حقه، وأن نحكم بين الحب والخوف حكمًا عادلاً، أن نتواصل مع الله في غايات حياتنا، وأن نرفق بطبيعتنا البشرية حتى لا تميل إلى الضرر فينا أو بنا، وأن نواجه الخوف ونضعه أمام أعيننا ولا ننكره، حتى وإن كنا لن نستطيع التغلب عليه، فيكفي أن نكون على علم به.
فأن تعلم غاياتك من كل الأحداث التي تصنعها أو تمر بها، وأن ترى خوفك واضحًا أمامك، تلك بداية أوضح من أن تترك الصراع في غفلة حتى تفقد زمام الأمور وتقع فريسة الخوف.