الرقص رحلة للكمال

536

(1)

تبدأ الموسيقى في العزف، لتخرج “نينا” إلى المسرح بتبرجها المخيف وزيها الأسود، لاعبةً دور البجعة السوداء في عرض مسرحي لباليه “بحيرة البجع”.

 

تنظر إلينا نظرة تمتلئ بالتمرد، وتلتف راقصةً بجانب الأمير، وكأنما تنصب شباكها حوله، ثم تنهي الوصلة الأولى من رقصتها، فتعود سريعًا إلى الكواليس، تخلع عنها أقنعتها، وتشعر بأصوات خفية تناديها، تدعوها لأن تقبل ذلك التمرد الكامن فيها، الذي لطالما رفضته لتظل متسقة وتوقعات الجميع فيها، تمشي باغتيال تجاه الأصوات، وكأنما تُلبي دعوتها وتقبلها بفخر ورضا تامين، تتحسس يديها، لتجد جناحين سوداوين لامعين يبدءان في الظهور على ذراعيها، فتبتسم بتمرد، وتعود للمسرح لتكمل وصلتها الثانية، وترقص.

 

ترقص “نينا” بكل ذرة فيها، تتحرك في تناغم حقيقي مع الموسيقى، تتمرد برقصها على كل شيء أكثر وأكثر كلما تصاعدت وتيرة المقطوعة، تدور وتدور، حتى تنبت أجنحتها كليًا، وتتوقف عن الرقص، ليتبع رقصتها تصفيق حاد من الجمهور، وتبهرنا الكاميرا بزاوية تقشعر لها الأبدان، فنرى ظلالاً لجناحيها خلفها على الحائط، في حين أن الجمهور يرى ذراعيها بشكل عادي جدًا، وكأن القائمين على صناعة الفيلم أرادوا أن يخبرونا أن “نينا” قد تمردت على كل ما كان يقيدها برقصتها، فتحررت من داخلها، وأجبرت الجميع على أن يقبلها بتمردها وحريتها في النهاية، لا لشيء إلا لأنها قبلت نفسها.*

 

يعتبر فيلم “البجعة السوداء/ Black Swan” للفنانة “ناتلي بورتمان” من الأفلام التي تنفذ إلى الروح قبل العقل، لأنها تجعلك تُفكِر في أشياء لم تكن لتُفكِر فيها لولاه، ومع أن الفيلم بأكمله تحفة فنية وسنيمائية، فإن هذا المشهد تحديدًا -السابق ذكره- هو أقرب المشاهد لقلبي.

 

“نينا” فتاة بسيطة، تحرص على تحقيق توقعات الجميع فيها، وكلما غالت في هذا شعرت بتحولها لكائن هش فاقد للملامح والهوية.

لم ترقص نينا الباليه وهي تشعر بالموسيقى تتخلل كل جزء من جسدها من قبل، وإنما ترقصه بلا أخطاء، بتحفظات، بلا روح، ترقصه بإتقان الآلات.

 

تتحول حياتها إلى النقيض باختيارها لدور ملكة البجع بعرض باليه، تؤدي فيه شخصية سوداوية تمتلئ بالتمرد والتحرر من القيود، فتضطر لخوض رحلة في أغوار نفسها، لتُنقِّب عن التمرد الذي دفنته تحت غبار الطاعة العمياء للكل بحثًا عن الكمال، فتكتشف نفسها برقصة، وتُدرِك أن الكمال لا يكون في الهشاشة المبالغ فيها والصوت الخفيض والجسد المثالي الذي يحرمها من تناول كعك الفراولة المفضل لديها ولو في عيد ميلادها، وتنحية أحلامها لتحقيق أحلام الآخرين، وإنما في قبول الذات واحتضان جوانبها الخيّرة والمظلمة، والإيمان بأن كمالنا يكمن في أننا لسنا بكاملين، وبأن الحياة هي أن نشعر بالهواء يملأ رئتينا حين نرقص.

 

(2)

نتلف حول صديقتي في دائرة، يصفق الجميع ويتمايلون على أنغام الموسيقى، اليوم يوم حنتها وبالغد سيُعقد قرانها، تبدو الفرحة على الجميع، تجذبني إحداهن إلى وسط الدائرة لأرقص، فيتملكني بعض الخجل، لكني أتغلب عليه بسرعة وأشرع في الرقص، فاليوم يوم فرحة صديقتي المقربة، وإن لم أرقص لها فلمن أرقص! كنت أشعر أنني أترجم مشاعري في رقصي، كان جسدي ينحني بحب وحبور.

 

رقصت حد التعب وذهبت لأستريح قليلاً، فإذا بإحداهن تسألني “إزاي بترقصي حلو كده وإنتي تخينة؟!”، باغتني سؤالها فلم أعرف بم أجيب، واكتفيت بالابتسام.

عُدت إلى منزلي، فنظرت إلى جسدي في المرآة مُطولاً، كنت أدور في دوامة التعليقات على وزني هذه منذ مدة بعيدة جدًا، كنت أكرهه، أكره هذا الجسد الذي يُحجِّم حريتي ويقيدني بنظرات الناس و”تابوهاتهم” السخيفة عني، أنا ممتلئة لذلك لا أستطيع أن أركب المراجيح أو أركض، والآن لا أستطيع الرقص! أما لهذا السُخف أن ينتهي؟!

 

أدرت مقطوعة موسيقية شرقية وتحاملت على جسدي التعِب ورقصت، أنهيتها مثلما تنهيها معشوقتي “سامية جمال”، أخذت أدور وأدور وأدور حول نفسي، حتى توقفت الموسيقى، وبدأتُ في نوبة بكاء حادة.

حينها اتخذت قرارًا مصيريًا، أن أحبني كما أنا، وأقبلني بما أنا عليه، لن أكره جسدي بعد الآن، ومن لديه مشكلة معي بسبب بعض الكيلوات الزائدة فهذه أزمته، وإذا التزمت يومًا ما بنظام غذائي أو بحمية فسيكون من أجل صحتي وليس من أجل شكلي، لأنني جميلة بأي حال.

 

(3)

حلمت ذات يوم أنني استيقظت في عالم اختفى منه الكلام، لم يعد بمقدور الإنسان أن يكتب أو يقرأ أو يعبر عن نفسه، فكل اللغات والكتب قد اختفت، ولم يعد بمقدورنا الكلام ولو بالإشارة.

 

ثم أتت لهذا العالم فتاة، لم يكن يقبلها أحد لاعتقادهم بدمامتها، لأنها لا تتوافق ومعاييرهم عن الكمال، فكّرت في تطوير أشكال جديدة من الحركات الراقصة للتعبير عن المشاعر الإنسانية على اختلافها، حيث يختار من يرغب في التعبير عن ذاته مقطوعة موسيقية، يغمض عينيه ويتركها تتسرب إلى روحه وقلبه، ثم يبدأ في الرقص، ويُفهَم من رقصته هذه ما يرغب في التعبير عنه! فوقفت في أكبر ساحة في مدينتها، وأدارت الموسيقى ورقصت بتمرد، فوقف الجميع ليشاهدونها، وتوافد الناس من كل أنحاء العالم إليها.. فأصبح هناك رقصة للحب، ورقصة للكُره والغضب والضعف والقوة، وبدأ الجميع بتقليدهم لها يكتشفون أنها لم تكن دميمة على الإطلاق، كانت مختلفة فحسب.

 

استيقظت ساخرةً من نفسى، لعلنى تأثرت بالفيلم الهندي الذي شاهدته قبيل النوم، فالحياة في الأفلام الهندية دائمًا مليئة بالرقص، لكن الفكرة راودتني من جديد لاحقًا، وأردت لو أصيغها في إطار قصة قصيرة، لكنني لم أنجح في هذا، فحزنت، حتى رأيت فيلم “البجعة السوداء”.

 

إن الرقص دعوة إلى عالم أرحب بكثير، عالم نقبل فيه أنفسنا كما هي، نشعر بانحناءات جسدنا وهي تُترجِم مشاعرنا في شكل خطوات، مهما كان شكل أو حجم هذه الانحناءات، ارقصوا مهما كانت أشكالكم ولا تخجلوا من رقصكم، لأن الرقص لا يتطلب جسدًا مثاليًا أبدًا، فهو رحلة إلى الكمال، رحلة تجعلنا نرى أنفسنا وكأننا نشاهدها بكادرات سينمائية ممتلئة بالحياة، فنرانا بلمعة في العين، وبابتسامة خافتة تعلو شفاهنا كلما تراقصنا على نغماتنا المفضلة، يجعلنا نرانا في أجمل وأكمل صورنا، لأنه يجعلنا عفويين وسعداء، وإذا أردتم إثباتًا على صحة كلامي، فلتراقبوا أي شخص يرقص بفرح، ستجده يزداد فرحًا، أو حتى بحزن، لتجد حزنه يستحيل فرحًا، في كل الأحوال ستجدونهم قد صاروا أجمل من أي وقت مضى بالفعل.

 

رابط رقصة ظهور البجعة السوداء فيلم “البجعة السوداء“.

المقالة السابقةحينما يرقص الكيان
المقالة القادمةملكات الرقص
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا