الرقصة اللي غيرت حياتي

774

عمري ما كنت مهتمة بموضوع الرقص أبدًا، وأهتم ليه؟ أكيد مكنتش هشتغل فيه وفي مجتمعنا رقص البنت قدام ناس متعرفهمش مش مقبول، لكن الصدفة خدتني من إيدي وحطتني في تجربة استثنائية مكنتش أتخيل إني هدخلها أبدًا.

 

البداية كانت في 2009 لما روحت أغطي مهرجان الساقية للأفلام التسجيلية، لحظات ملل كتير عدت عليّ، لكن شغلي كان بيحتم عليّ أقعد في الصالة الضلمة للآخر، عشان أقدر أكتب تقرير محترم عن الأفلام، وفجأة بدأ فيلم “اللفيف”، من أول لحظة فيه اتثبِّت في مكاني، الموسيقى والتصوير والفكرة خلوني غيبت عن الكون فجأة وبقيت جزء من عالم دخلته لأول مرة، ومن وقتها مخرجتش أبدًا.

 

“اللفيف” هو الشخص اللي بيلبس التنورة وبيبدأ يدور على أنغام موسيقى صوفية، سواء كان لابس أبيض أو تنورة ملونة زي اللي بنشوفها في المناسبات والموالد، فكرة الفيلم تبدو من برة بسيطة جدًا، مجرد حكاية عن يعني إيه لفيف، وإزاي الفكرة بدأت في قرية قونية في تركيا، لما الشاعر جلال الدين الرومي، مات صديقه ومعلمه وحبيبه شمس التبريزي، فقلبه انفطر من الحزن ومبقاش فيه طريقة يخرج بيها غير الدوران، اللي اتسمى بعد كده بالطريقة المولوية.

 

كل ده مكانش مهم بالنسبالي قد فكرة إن شخص زي جلال الدين الرومي واجه حزنه بالرقصة دي، فضل يدور يدور في ساحة بيته وهو لابس أبيض في دلالة على الكفن، دوران سريع خلاه يحس للحظة إنه جزء من الكون اللي مش بيبطل دوران، وكل ما كان بيتعب كل ما كان بيحس بتحسُّن، لأنه مؤمن إنه تعب الجسد بيسمو بالروح.

 

“أنت كعبة الأرواح، فلأقم بالطواف حولك، فأنا كالفلك، عملي ليل نهار هو الطواف، ولا ترتعد في جواد الجسد، وترجل سريعًا.. فالله يهب جناحًا لمن لا يمتطي الجسد.. هيا طر أيها الطائر حول معدنك، فقد نجوت من القفص وصار لك جناح وقوالب”.

 

الكلمتين دول عمري ما نسيتهم، اتحفروا جوة قلبي، من وقت ما سمعتهم في مقدمة الفيلم من سبع سنين ولحد دلوقتي، وكأني فجأة لاقيت نفسي وعرفت حاجة عني عمري ما كنت أعرفها قبل كده، بدأت أقرأ أكتر عن المولوية، إزاي الراقصين فيها، بيلبسوا على راسهم طاقية بني طويلة في دلالة على شاهد القبر، ولما بتبدأ الموسيقى الصوفي الروحانية جدًا، يبدؤوا يخلعوا العباية السودا اللي لابسينها في إشارة للتحرر من آثام الدنيا وذنوبها، ويبدؤوا يدوروا بالجلباب الأبيض الفضفاض اللي بيرمز للكفن، دوران طويل وظيفته إنهاك الجسد والتحول ولو لدقايق لجزء من حركة الكون المنتظمة جدًا، والمريحة جدًا جدًا.

 

منكرش إني لما روحت بيتي حاولت أدور، لكن فجأة جالي إحساس شديد بالخوف، قعدت وقلبي دق بعنف، مع إني تخيلت إن الموضوع سهل، لكن مكانش سهل بالمرة، الموضوع مش مجرد لف وخلاص، التجربة بتحتاج تهيئة نفسية وتجرد فعلي من كل شيء، من خوفك إن حد يشوفك ويقول عليك مجنون، من إحساسك إنك هتقع، أو هتدوخ، أو هتتخبط، أو هيحصلك أي أذى بأي شكل.. الفكرة إني أكون جاهزة وأنا مكنتش جاهزة بأي شكل.

 

فيلم “اللفيف” من إخراج عز الدين رمضان، وأسامة الشيخ، خلاني أدوّر على المولوية في مصر، واكشتفت من وقتها فرقة “عامر التوني” وبدأت أتتبع حفلاتهم، مع بعض التحفظات على الأداء في الفترة الأخيرة، لكن اهتمامي الشديد خلاني أحاور بعض اللفيفة في الفرقة، ومنهم أحمد موسى، وطبعا كان سؤالي الأول هو السؤال المتوقع “مش بتدوخ من كتر اللف؟ إزاي بتكمل؟”، لكن إجابته كانت ملفتة فعلاً، لما قالي إن اللف بالنسبة له مش مجرد مهنة، اللف شعور بيتتبعه كل يوم في الحفلات اللي بيروحها، عشان يتخلص من الهموم والمشاعر الحزينة اللي ممكن يحس بيها، وقالي إن اللي بيلف وهو حاسس إنه بيتحرر غير اللي بيلف عشان ده شغله وعاوز يخلص عشان يروح الحفلة اللي بعدها.

 

اللفيف الشاب اللي بيبدأ الدوران بإيد بتشاور فوق وإيد تانية بتشاور تحت في إشارة لاتصال الأرض بالسما، مكانش عارف تاريخ الرقصة أوي، رغم إنه حاول يبان فاهم، لكن الأكيد إنه كان حاسس جدًا باللي بيعمله، وده بان من شغفه في الكلام عن وظيفته، اللي بيحبها وبيتبسط بيها، وكانت أمنيته البسيطة إن الناس تحترم اللفيف وتحس بقيمة اللي بيعمله، خصوصًا في الأفراح، اللي ساعات المعازيم والأطفال بيمسكو ديل التنورة عشان يوقعوا اللفيف.

 

المولوية لما دخلت مصر، المصريين حطوا اللمسة بتاعتهم، وبقت الجلابية البيضا اللي بتدل على الكفن، عبارة عن ألوان مبهجة وسعيدة، حتى رتم الموسيقى الصوفية اتحول لرتم سعيد ومبهج “إن وصلت هناك وبلغت مناك، ووضعت يداك على الشباك بلغ سلامي إلى محمد”، وده اللي بتقدمه فرقة التنورة في وكالة الغوري، في منطقة الحسين.

 

رغم إني محاولتش ألف من 2009، لكن قعادي قدام لفيف بيدور بيدوِّب كل التعب والإنهاك النفسي اللي جوايا، دقايق من التركيز مع التنورة الطايرة في الهوا خلتني أحس يعني إيه “رقصة للحياة”، رقصة تدوِّب حزنك وتمتص ألمك وتديك طاقة حتى لو مكنتش إنت صاحبها، حتى لو مكنتتش جاهز ليها من الأساس.

المقالة السابقةكلنا راحلون
المقالة القادمةحينما يرقص الكيان
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا