الحلق القاتل

1088

رحاب

تم نشرة في 04/13/2018

طالبة تحاول الانتحار من نافذة المدرسة بسبب حلقها الذهبي”.

 

كنت أجول بنظري سريعًا بين الأخبار حتى اصطدمت بذلك الخبر الغريب جدًا، قرأت التفاصيل سريعًا ليتحول استغرابي إلى شعور عميق بالبؤس، تلميذة في الصف الثاني الابتدائي، في محافظة كفر الشيخ، قررت أن تنتحر!

الصغيرة التي لم يتعد عمرها عشر سنوات اتخذت قرارًا لا يجرؤ عليه الكثير من الكبار. تذكرت فورًا مشاعري في تلك السن الصغيرة، حينها كنت أخشى الموت بشدة، كذلك كل الأطفال يرتعبون من الفكرة، فكيف خطر لها أن تنتحر؟!

 

تابعت قراءة الخبر لأكتشف مزيدًا من التفاصيل، الصغيرة التي سقطت “فردة حلقها” خلال اليوم الدراسي أصيبت بنوبة هلع شديدة حين أخبرتها زميلتها أن أحد قرطيها ليس مكانه؛ تحسست أذنها قبل أن تلطم على وجهها دون توقف هاتفة “أمي هتموتني”.

حاولت زميلاتها تهدئتها أنه لا بأس، وأن الأمر خارج عن إرادتها، لكنها ظلت شاردة لبقية اليوم الدراسي تبكي حينًا وتشرد حينًا. فكرَت كثيرًا في اللحظة التي ستعرف فيها أمها بشأن الحلق وفي رد الفعل الذي لم يبد أنه كان ليمر بسلام، فجأة اتخذت قرارها بالقفز من نافذة المدرسة لتسقط مدرجة في دمائها، حيث أصيبت بكسر في الحوض. صحيح أن أسرتها اتهمت إدارة المدرسة بالإهمال، لكن تحقيقات النيابة انتهت إلى أن سبب القفز “خوف الطالبة من تعدي أسرتها عليها بعد أن فقدت قرطها الذهبي بالمدرسة”.

 

لم تمت فتاة الحلق، لا أدري هل هذا من حسن حظها أم من سوئه. حاولتُ تخيل اللحظة التي أهدتها فيها أمها الحلق، ماذا قالت لها، ومم حذرتها حتى تنتحر الصغيرة بمجرد فقده؟ هل كانت هدية حقًا؟ حسنًا.. ما كان هدفها؟ إسعاد الصغيرة أم إثقال كاهلها بمسؤولية مقاومة القدر الذي شاء لها أن تفقد أحد قرطيها؟

 

صورة وجه أمها لم تغب عن بالي، بالتأكيد عنَّفتها على القفز، كما عنَّفتها من قبل حين حذرتها من ضياع حلقها، تمامًا كتلك الصورة لتلك الأم التي صادفتها تسير في منطقة الدقي بصحبة ابنها، كانت تؤنبه بعنف لأن مدرسه ضربه.

“ما إنت ملطشة” قالتها بصوت عالٍ للغاية، جعل صغيرها ينظر حوله سريعًا ليُذكِّرها بإحراج شديد “ماما إحنا في الشارع! صوتك عالي جدًا!”. لكن هذا لم يردعها، حيث واصلت صراخها في وجهه، حاول السير بعيدًا عنها لتفادي الصريخ والنظرات، لكنها صرخت أكثر “امشي جنبي”.

 

تكرر الموقف مرة أخرى مع ثنائي آخر، لكن الصغير هذه المرة لم يبدُ مكترثًا بالمارة أو الشارع، كان يبكي بحرقة يتجنبها من هم في مثل سنه في الصفوف الأخيرة من المرحلة الابتدائية، حيث الكثير من الاعتداد بالنفس وبدايات تكون الشخصية المنفصلة.

كانت تضغط عليه بعنف وتؤكد أنها لا تصدقه وأنها ستتصل بفلان وعلان في مدرسته، كان يبكي بحرقة صادقة، بينما هي لا تنظر له من الأساس.

 

داخل الصيدلية الواقعة بحي شعبي كنت أقف بانتظار صرف روشتتي، حين دخلت تلك السيدة تجر ابنها جرًّا، كان في نحو السابعة أو الثامنة، يرتجف من الخوف، فيما تمسك يده بعنف يزيد خوفه، تعامله معاملة الخرفان، وكلما حاول الابتعاد خلف الصفوف بادرته بصفعة، لم أصدق عيني حتى سمعتها تخبره باشمئزاز “دي حقنة وخلاص، هو هيقتلك يعني؟!”.

إن كان ألم جرعة الدواء قيراطًا فأقسم أن ألم الصفع والتجاهل لمشاعر خوفه كانت تؤلمه 24.

 

القاسم المشترك بين تلك المواقف جميعًا هو ذلك الشعور الطاغي لدى كل هاتي الأمهات، أنهن يفعلن ما هو صوابًا، تارة تحت شعار التربية وتارة تحت شعار الصحة وتارة أخرى تحت شعار التعليم، هكذا تتحول هداياهم إلى بلايا، وتتحول التربية إلى تشويه نفسي، ويصبح التعليم مأساة، تحول لا يشعر به أصحابه نقع فيه نحن أيضًا.

حاولت التفكير في كم الأمور التي أقوم بها تحت دعوى “المصحلة” و”الواجب” و”الصح” بينما هي لا تزيدني ولا تزيد من حولي سوى بؤس ومعاناة.

 

ليس ثمة مسلمات، وليس ثمة صواب وخطأ، العِبَر بالخواتيم، إعادة تأمل الحياة فرض عين، لو نظرت كل من هاتي الأمهات لمشهدهن من الخارج لأصابهن الهلع، هن لا يشعرن ببؤس حالهن، وكذلك نحن، المسألة بالكامل تحتاح لنقطة نبدأ بعدها من أول السطر، لعل وعسى نرى الأمور على حقيقتها وليس كما نتخيل أنه الحقيقة.

 

المقالة السابقةحين يختلط الحب بالمبالغة
المقالة القادمةكيف تدللين نفسك عن طريق القراءة؟
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا