(١)
"مش قادرة أصدق إن ده حصل".
لم أقل شيئًا بخلاف هذه العبارة طوال يومين. يومان قضيتهما في سريري، لا طعام، ولا رغبة في الحديث، يومان بعد نهاية كل شيء، وأنا التي كنت أتصور أنني قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم.
كنت أحبه جدًا، وكان يقول إنه يحبني، التقى عائلتي ثم انتهى كل شيء، توقف عن مهاتفتي، ولم يرد على مكالماتي، حتى اتصلت والدته بأمي في ليلة ودون مقدمات، لتقول لها "معلش.. كل شيء قسمة ونصيب".
بهذه البساطة.. تمامًا كما في الأفلام.
بعد ثلاثة أعوام أتذكر القصة، أضحك طويلاً، أقول لصديقتي المقربة، "لو فيه علامة على حب ربنا ليّ، تبقى إن القصة دي مكملتش".
لمَ؟ سأعترف حالاً.
للحب سحر.. الجميع يعرف هذا، وأنا كنت مسحورة تمامًا، للدرجة التي فكرت معها، أنه وما المشكلة إن قررت تغيير شكل ملابسي، أو قبلت خفض سقف الحرية العالي الذي منحني إياه أهلي، لأقبل تحكمًا في مواعيدي وشكل علاقاتي، بل وفي كثير من آرائي ومعتقداتي، كل هذا، باسم الحب.
انطويت، وسميت عزوفي عن الأشياء كلها حبًا، انطفأتُ وكنت أعرف، وكنت أكذب على نفسي قبل الجميع، وأقول إنني "عِقلت"، لكن الجميع يعرف أن الجنون بعينه أن أتخلى عن مبادئ وأفكار كونتها خلال ستة وعشرين عامًا، لأتبع أحدهم، خصوصًا إن كانت مبادئه تنص على ضرورة ترك عملي، ضرورة تحجيم صداقاتي، ضرورة التوقف عن الكتابة، وضرورة فعل كل شيء لم أقتنع به يومًا.
بعد ثلاثة أعوام أتذكر القصة، وأنا أنظر في المرآة، بعد أن عدت أنا، أنعم بدائرة تشكل مساحة أمان، أعمل في وظيفة أحلامي، أبتسم، ثم أحمد الله على أنني فقدته، قبل أن أفقدني.
(2)
"طلعت ع ساحة ميس الريم.. وانقطعت فيها العربية".
أحدهم قال لي يومًا إنني أذكره بفيروز، أو ربما أشبهها، كان هذا مضحكًا جدًا، ولكنه في هذا اليوم كان حقيقيًا للغاية.
بعد يوم عصيب، وقبل أذان المغرب بساعة، أقود سيارتي على كوبري أكتوبر، معي فستاني الذي سأرتديه في حفل زفاف ابنة عمتي، أفكر في لا شيء، قبل أن تتوقف السيارة تدريجيًا، لأن شيئًا ما لا أعرف كنهه، حدث.
أترجل من السيارة، قبل أن يظهر لي أحد الضباط "الوقفة هنا خطر يا آنسة"، ليدفعني الونش حتى نزلة شبرا، يخبرني أحدهم أنه الموتور، ماتت السيارة.
رحلة العودة للبيت كانت مضنية، ولكن التفكير في المستقبل كان أكثر إرهاقًا، ماذا سأفعل؟ كيف سأتدبر مصاريف التصليح؟ وكيف سأواصل الحياة؟ حزن، بكاء، وشعور بأن الدنيا تآمرت عليّ بصورة ما، ولكن شيئًا ما كان يقول لي إن هناك حكمة ما من كل ما يجري، بالتأكيد.
الحكمة أدركتها لاحقًا، صحيح أنني بعت السيارة بأقل من ثمنها، ولكنني اشتريت أخرى، كانت سيارة أحلامي منذ البداية، الحكمة ليست هنا حتى، إنما في كون ذلك كله قد حدث قبل أن يرتفع سعر السيارات في مصر بأسبوع واحد، لأدرك أنني لو لم أكن اشتريتها حينها، ما كنت حققت حلم امتلاكها يومًا.
(3)
"فنظرًا للتغييرات الإدارية، إنتي ومجموعة من الزملا مش هتبقوا معانا يا منى".
تقولها لي موظفة الموارد البشرية، وفي عينيها نظرة حزن، ولكن الأمر كان مضحكًا جدًا بالنسبة لي، أجلس مع "مجموعة الزملا"، فنضحك أكثر، ولكنني حين عدت إلى المنزل، بدأ الألم.
أن تكون جزءًا من مشروع ما منذ البداية، يجعلك أكثر من مجرد موظف يعمل نظير راتب شهري، وهذا المشروع كان حلمًا حضرته من البداية، كنت جزءًا من فريق خطط وحضر أولى خطوات التنفيذ، كانت نجاحاته انتصارات شخصية، وكبواته أسبابًا قوية لحزني واكتئابي. عامان ونصف تقريبًا من الارتباط، صداقات وحكايات، إنجازات انتهت كلها فجأة، بهذه العبارة الباردة، "مش هتبقوا معانا".
الأيام الأخيرة قبل أن يحدث هذا كانت بغيضة جدًا، كان الشغف ينطفئ وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث، كنت أفكر دائمًا، هل ينبغي عليّ أن أرحل؟ الإجابة المنطقية هي "نعم"، ولكنني لم أقو على ذلك، أضعت فرصًا وأهدرت طاقة، ثم كتب غيري نهاية القصة.
اليوم.. أمر حيث كان مقر عملي، أبتسم للذكريات وللعبة القدر، ولأن الله كما كان، كما سيظل دائمًا، مد يده لينهي حالة لم أكن لأنهيها يومًا، ولولا نهايتها، ما كنت أكتب مقالي هذا الآن، في المكان الذي تمنيت قبل ١٠ سنوات أن أعمل فيه، في الوظيفة التي أشعر وكأنما أنا خلقت لأجلها.
(٤)
أنا أحبك يا الله، أحبك لأنك بتدبيرٍ ولطف، تمنحني كلَ ما لم أتوقع الحصولَ عليه، أحبك لأنك تمهلني، تصبرُ عليّ إذا قصّرت، وتغفر لي إن أقبلت، وأنا أعود إليك في كل مرةٍ، وفي كل مرة أجدُ الطريقَ إليك ممهدًا، وأجد روحي إن سارت فيه صارت أكثر خفةً، وكأن الروح فيها دبت من جديد.
أنا أحبك يا الله، وأعرف أنك تحبني، لأنك تنجيني، لأنك ترسل لي ألف إشارة وإشارة قبل كل قرار، وفي لحظة ما وبكل رأفةٍ، تمد لي يد الرحمة لتبعدني عما قد يكسرني، أحبك لأنك لا تهملني، لأنك تذكرني، وتغمرني بسترك وكرمك وإن بخلت أنا. وأنا لا أسألك إلا أن تبقيني في جهتك، لا أسألك إلا عفوًا تتجاوز به عن أخطائي، ورحمة تشملني بها، وأنت دائمًا ما تفعل.