الاكتئاب مبيتمعلش

1211

بقلم/ خلود أحمد علي

– الحاجة الوحيدة اللي مانعاني من قرار الانتحار هو إني عرفت إنه حرام وإني هدخل النار.. مش ناقصة.
– أنا مانعني من قرار الانتحار أهلي، هم اللي واقفين بيني وبين القرار.
– أنا عارف كويس قوي هنهي حياتى إزاي، ومحضر الكلام اللي هسيبه لأهلي، مش عارف هعمل كده امتى بس هعملها.

جمل اتكررت على مدار السنين على لسان ناس قريبة مني، جمل أحيانًا كنت أصغر من إني أستوعبها فاعتبرتها مجرد كلام وهرتلة، وأوقات كنت أكبر شوية فحسيت بالعجز إني مش قادرة أعمل حاجة. المشترك ما بين الجمل دي كلها إن أصحابها ممكن يغيروا رأيهم لو بس اتفهموا، لو خدوا مساحتهم في التعبير عن نفسهم بدون نقد، ولو واحد من القريبين اهتم كفاية إنه ميعاتبش وميقولش معلش، لو اللي حواليهم بطلوا ابتسامة سمجة وضحكة مدهونة بكلام من نوع “السعادة قرار” .

كلام الصحاب اتكرر عليّ وأنا بقرأ خبر وفاة تشيستر بيننجتون وبقرأ كلامه اللي قاله من فترة:
“أنا وصلت لمرحلة في حياتي كنت فيها ما بين اختيارين، أستسلم وأموت، أو أحارب عشان أوصل للي عايزه، واخترت أحارب”.

الكلمات دي قالها تشيستر بيننجتون في أحد لقاءاته اللي اتكلم فيها عن إنه عانى من الاكتئاب، تشيستر اللي شكِّل وعي كتير من جيلي وأجيال كتير على موسيقاه اللي محدش عرف يصنفها ما بين ميتال أو هيب هوب، واللي عبَّر من خلالها عن مشاعر كتير مبنعرفش نتكلم عنها، تشيستر اللي عانى كتير في حياته ما بين “استغلال جسدي “abuse من أحد أصدقائه في سن 11 سنة، وإدمان تسبب في إن والدته تطرده من البيت، وأخيرًا اكتئاب أنهى حياته بإنه شنق نفسه في يوم ميلاد صديقه المطرب المنتحر “كريس كورنيل”.

 

كريس اللي عانى من الاكتئاب والإدمان فترة كبيرة في حياته، ودخل مراكز تأهيل للتخلص من إدمانه، وبقى داعم بشكل كبير لعلاج الإدمان بعد كده، واللي اتكلم في أحد اللقاءات عن إن أهم نقطة واللي تبدو أوضح نقطة في الموضوع، هي إن المدمن يشوف إنه أفضل كتير وهو صاحي وفايق، “كريس” لقوه ميت في أوضته بعد حفلة كان أدّى فيها مايو اللي فات، ورغم تضارب الأقاويل عن تناوله جرعات أدوية مختلفة خلت سلوكه يومها مش طبيعي حتى بالنسبة لزملائه، لكن تقرير السموم جه سلبي وأكد إنه مخدش حاجة، وخلانا نرجع للسبب الرئيسي.. الاكتئاب.

أول مرة سمعت كلمة اكتئاب كانت لما عرفت عم صلاح جاهين وأنا في أولى ثانوي، كنت بتعجب مين الحد اللي قال “أنا شاب لكن عمري ألف عام وحيد لكن بين ضلوعي زحام.. خايف ولكن خوفي مني أنا.. أخرس لكن قلبي مليان كلام”، دايمًا كنت بتعجب ليه حد يتكلم عن خوف بالطريقة دي، في نفس الوقت يكتب “الدنيا ربيع والجو بديع”! عرفت بعد كده إن عم صلاح كان مريض بالاكتئاب، وعانى معاه طول حياته، ورغم إن حزنه خلاه مبدع بس إبداعه مكفاش إنه يخليه أحسن.

الاكتئاب اللي ممكن يكون مش واضح بالنسبة ليك، واللي ممكن المصاب بيه يكون بيتعامل معاك عادي زي تشيستر اللي كان في لقاء تليفزيوني قبلها بكام يوم، وكان باين مبسوط وطبيعي، واللي خلى كريس يطلع يغني ع المسرح ما بين الجمهور قبل ساعات من انتحاره.

الاكتئاب اللي هو مش حزن ومش زعل بيروح بالطبطبة والفضفضة ومعلش وكله هيكون تمام.. الاكتئاب اللي أصبح بيطارد كتير من اللي حوالينا واللي أصبح مشكلة حقيقية مينفعش نبص بعيد عنها وندفن راسنا في التراب، ونقول مفيش حاجة صلي وصوم وهتبقى كويس.

 

الاكتئاب مش كآبة ولا تفاهة ولا ضعف إيمان، الاكتئاب مش حاجة عارضة وموضة، ولا شيء كل الناس بتعيشه.. الاكتئاب مرض ممكن يصيب الإنسان في أي سن وأي وقت، والاكتئاب من الأمراض اللي بتتكرر كل فترة وبتستمر من مدة 4 إلى 30 أسبوع، وأحيانا لـ6 شهور.

مريض الاكتئاب ممكن تلاقيه طول الوقت موده حزين كئيب، كل يوم تقريبًا وكل لحظة فاقد الرغبة في فعل أي شيء، وزنه بيقل، استيعابه وتركيزه بيقل، مشاعره هتكون محملة بالذنب من حزنه المستمر، وأي فعل هيقابل باستهجان من اللي حواليه هتلاقيه بيشيّل نفسه ذنبه، وهتلاقيه بيعاني من مشاكل في النوم، قِلِّته أو زيادته أو عدمه أصلاً، وده بيكون شكل مريض الاكتئاب المتعارف عليه أو اللي مفهوم للناس بشكل كبير، واللي ممكن الناس تتقبله كمريض.

بس فيه نوع تاني من المرضى مبيكونوش بالوضوح ده، فيه نوع هتلاقي مشاكله بتتلخص في قلة النوم والإرهاق المستمر والتعب الجسدي زي الصداع أو وجع في البطن، وفيه نوع بيكون باين عليه مشكلة مختلفة تمامًا، زي كونه بيعاني من الفوبيا أو الإدمان، وفيه نوع هتلاقيه بيلحق الأذى بنفسه باستمرار زي إنه يجرح نفسه بسكينة، النوع ده بتكون مشكلته إنه مش مقبول في المجتمع كمريض اكتئاب، ويمكن هو نفسه يكون مش مستوعب إنه مكتئب فبيستمر ويكمل لحد ما يوصل لنقطة الانهيار، واللي لو كان محظوظ هو واللي حواليه مش هتكون الانتحار.

لو بصينا على أسباب الاكتئاب، هنلاقي إنه زيه زي باقي الأمراض النفسية، ملوش سبب محدد ينفع أتعامل معاه، بس فيه أسباب بتؤدي إليه، ممكن يكون السبب موروث أو بسبب حادثة في الطفولة، زي التعرض للـabuse أو فقد أحد الوالدين أو التعامل مع والد مدمن، ويمكن يكون السبب مرض زي الإصابة بالجلطات أو تغير في بعض الهرمونات، أو حالة اجتماعية سيئة زي الطلاق، أو وضع اقتصادي مش كويس أو… أو… أو… أسباب كتيرة مختلفة وأسماء لأمراض واضطراب في مواد كيميائية في المخ ممكن تؤدى للاكتئاب، بس من غير دوشة كتير وتفاصيل، بنوصل في النهاية إن الاكتئاب مرض يجب التعامل معاه على هذا الشكل.

على مدار السنين تسبب الاكتئاب في خسارة أشخاص كتير، يمكن محسناش بيهم لأنهم مكانوش مشاهير، ويمكن لأن الانتحار بيعتبر وصمة عار في مجتمعنا الشرقي بيتم التكتم عليها، ولو بصينا على الأرقام تبعًا لمنظمة الصحة العالمية 300 مليون إنسان حول العالم مصابين بالاكتئاب، وتبعا لأوكسفورد 13% من المصابين باكتئاب شديد معرضين للانتحار، ومرضى الاكتئاب عامة أكثر عرضة للانتحار من غيرهم .

فمن انتحار فرجينا وولف اللي تركت آخر رسالة لزوجها “سأفعل ما أراه أفضل”، مرورًا بفان جوخ اللي كتب لأخوه ثيو يقول “أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني”، إلى داليدا التي قالت رسالتها “سامحوني.. الحياة لم تعد تُحتَمل”، وصولاً إلى روبن ويليامز الكوميديان اللي ضحكنا على مدار السنين، هنلاقي هناك آلاف من المكتئبين بصمت واللي بيعانوا من وصمة المجتمع ليهم بقلة الإيمان وعدم الصبر على المكتوب، آلاف من المنتحرين من غير ما نسمع ولا هنسمع عنهم حاجة، وهناك ملايين حول العالم بيصحوا كل يوم عشان يحاربوا فكرة إنهم ينهوا حياتهم، فكفاية أرجوكم تعتبروهم بيمثلوا، كفاية كلمة “إنت كئيب ومعلش وهتعدي”، كفاية فكرة العار اللي بتلزقوها في جبينهم، وكفاية مساومة على المرض.

 

الضحكة مش قرار والفرحة مش قرار، والاكتئاب مش قرار، ومش معنى إنك عارف تكمل رغم الصعوبات إن غيرك بيعمل زيك، مش مطلوب طبطبة ولا صعبانيات زيادة برضو، كل اللي مطلوب تفهم وخلق مساحة وعدم إصدار أحكام، يمكن ساعتها نقدر ننقذ أصحابنا من إنهم يلاقوا نفس الطريق.

من فيرجينا وولف إلى روبين ويليامز

 

 

 

المقالة السابقةأشياؤنا الصغيرة “زي النجوم حواديت”
المقالة القادمةهل لي بفرصة ثانية حتى أشبهني؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا