الاكتئاب.. بين المرض وموضة العصر

2193

 

 

بقلم/ كريمان حامد

 

“أشعُرُ بالاكتئاب”

جملة باتت مألوفة تكاد تُسمع كل يوم، وبعد أن كان هذا المصطلح يُعد من أشد الأمراض النفسية قتامة، ومن أشدهم خطرًا لما يحمله من قصص تعيسة نُسبت إليه، بات كلمة اعتيادية يُشاع استخدامها بين عامة الناس ومن كل الفئات العمرية، حتى أصبح من غير العجيب أن يأتي طفل دون الخامسة عشرة يقول بكل تلقائية: أنا مُكتئب.

 

لكن، من زاوية أخرى، بعد النظر إلى كل أبعاد الموضوع تحت ظل تدنِّي الأحوال الاقتصادية وتفشي الأمراض المجتمعية، والضغوطات الخارجية الأُخرى، هل يجدر تناول الأمر بسخرية؟ هل تجدر الاستهانة بمن يصرح علانية بكونه مكتئبًا، اعتمادًا على أنها باتت موضة متداولة على الألسنة، أم أن الأمر يجب أن يؤخذ بمحمل الجد، بكون فرط استخدام المصطلح يعد ناقوس خطر للمناخ السلبي العام المحاط بعصرنا الذي حوّل مرضًا خطرًا له ظروف استثنائية إلى حالة عامة بات الكل على أثرها مصابًا به؟

 

اكتئاب أم أزمة نفسية طارئة؟

للإجابة على التساؤلات أعلاه، لا بد أولاً من التفرقة بين الاكتئاب والأزمات النفسية التي تعترض طريقنا بين الحين والحين -بطبيعة الحال- وتُنسب جهلاً للاكتئاب.

 

إن المحن الشديدة جدًا التي تعترضنا أثناء مسيرة الحياة، على سبيل فقدان عزيز أو أزمة مرض، قد تأخذ منحًى من أشكال الحزن أو اليأس اللذَيْن يشكلان أهم بوادر الاكتئاب وليس الاكتئاب بعينه. ويبقى الفاصل هو طول أمد هذه الحالة النفسية الطارئة ومدة بقائها. فالحزن، اليأس، والإحباط، حالات طبيعية يمر بها الفرد منا بعد الأزمات القوية، وتستمر لفترة معينة، ثم تقل تدريجيًا إلى حين العودة للحالة الطبيعية. بينما إن حدث وتخطى الأمر حد المعقول وتجاوز ما يقرب ستة أشهر حسب خبراء النفس، فإن الوقفة هنا ضرورية مخافة أن يكون الشخص قد أصبح مريض اكتئاب بالفعل.

 

وإن كان هذا ما حدث فعلاً، فإن الحالة هنا تحيد لمرحلة أكثر تعقيدًا وربما خطورة. فيتحول الشخص أكثر من كونه حزينًا أو محبطًا إلى شخص آخر غير متزن، ردود أفعاله غير مستقرة بين الحزن والضحك غير المبررين. وإن ساءت الأمور، فقد يفقد الشخص مشاعره تمامًا، فلا حدث سعيدًا كان أو تعيسًا يُحدث عليه تأثيرًا.

 

هذا بالتأكيد جنبًا إلى جنب مع الأعراض الشائعة لهذه الحالة، من الأرق الدائم، فقدان الشهية، الخمول، وأحيانًا أخرى فقدان الرغبة بالحياة بأكملها. فالاكتئاب ليس مجرد حالة معينة واحدة، بل مجموعة حالات ومشاعر سلبية تؤدي في النهاية إلى شخص عاجز عن السير في الحياة، راغبًا كثيرًا في التخلص منها.

 

موضة الاكتئاب

من زاوية اللَبس الحاصل بين الاكتئاب والأزمات النفسية، تتفرع فئة أخرى تنتشر بشكل خاص في الطبقات العلا، قد تكون مدعاة للسخرية بقدر كونها مثيرة للشفقة، من أفراد خلقوا من محنهم الاعتراضية، أزمات جسيمة تهدد حياتهم، والغريب أن وضعهم قد يصبح أفضل حالاً -فقط- إن تم إشعارهم أنهم مرضى اكتئاب. فما يلبثوا أن يجتمعوا مع أقرانهم حتى تخرج أقراص اكتئابهم علانية، فاصحين لمن حولهم عن أزمتهم المستعصية. والحقيقة وإن كان هذا النوع من الحالات يندرج تحت مرض نفسي ما، لكنه لا يصح بأي شكل من الأشكال إدراجه تحت مسمى الاكتئاب.

 

مرض العصر

الواقع يقول إن طبيعة الحياة الحالية بما يعتليها من تدني الأوضاع المعيشية، وتفاقم مشكلات المجتمع بازدياد البطالة، حالات الطلاق، وتأخر الزواج، إلى جانب المواجهات الروتينية اليومية المتباينة بين أزمات المواصلات، ارتفاع درجات الحرارة، وتحديات العمل، كلّها عوامل زادت من معدل إصابة الأشخاص بعوارض الاكتئاب.. ولا سبيل من نكران ذلك.

 

الاكتئاب بات مرض العصر، لم يعد أمرًا شاذًا مقتصرًا على المشاهير ومن هم تحت الأضواء فقط. الأمر أصبح أكثر خطرًا وتهديدًا لكل الفئات العمرية دون استثناء. وما يزيده خطورة هو فرط تداوله، ما جعله أمرًا اعتياديًا يمر غالبًا مرور الكرام على آذان السامع، لتنتهي القصة بعد ذلك نهاية درامية لا حيلة بعدها سوى الرضوخ أو إلقاء اللوم على مجهول.

 

رفقًا بهذا المرض، رفقًا بالشاكين، الأمر بحاجة ماسة إلى زيادة الوعي بمسبباته والفروقات بينه وبين الأزمات النفسية الأخرى. رفقًا بأصحاب المرض الحقيقي، لم تعد المسألة تنقص مزيدًا من “الدلع” لفتًا للأنظار وإشباعًا لنواقص نفسية أخرى، فيختلط الحابل بالنابل، ويضيع المريض الحقيقي وسط هذه الفوضى المصطلحية وقد ينهي حياته آخر الأمر!

 

الاكتئاب أزمة حقيقية، مرض العصر، مرضاه بحاجة إلى دعم واحتواء، وليس موضة أو أكسسوار يُستخدم كزينة من قِبل بعض فارغي النفوس.

 

 

 

الاكتئاب أزمة حقيقية مرضاه بحاجة إلى دعم

 

المقالة السابقة10 جُمل لا تقُلها أبدًا لمريض الاكتئاب
المقالة القادمةيقاومن الاكتئاب بالمكرونة ومربى التوت
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا