الأمومة.. المرادف الجديد للوحدة

774

مي فتحي

أتمت ابنتي العامين مُنذ أيام، بالنسبة لي الحسبة بسيطة، كلانا يُتم العامين في تجربته الخاصة، هي في تجربة الحياة، وأنا في تجربة الأمومة، وفي كل لحظة أحتفي فيها بما تكتسبه من مهارات وبكل خطوة تخطوها نحو العالم، أُقيِّم أيضًا -داخليًا- أمومتي، وأراجع كل أفعالي في فلك الأمومة.

 

نعم.. فالأمومة فلك، وأنا كوكب وحيد يدور فيها، أدور وأدور في فلك أمومتي التي ربما لم أخترها، لكنني مُجبرة عليها بفعل قوى أخرى.. هكذا حال الكواكب.

 

الأمومة تعزلنا بلا شك، تعزلنا عن كل شيء، تعزلنا عن الماضي، وعن الحاضر أيضًا، حتى أنها تعزلنا عن تجارب الأمهات الأخريات، سواءً كُنَّ قريبات أو نراقبهن من شاشات هواتفنا المحمولة. ما أسهل أن أردد لنفسي: لستُ مثلها.. سواء كان المقصد مدحًا أو ذمًا!

 

الأمومة تعزلنا حتى عن أن نرى وحدة الآخرين بداخلها، كُلٌ في فلك أمومته، يحاول اللحاق بتلك القوة التي تجذبه ليبقى في مسار مُحدد، لا يُمكنه الخروج عنه. أرى ذلك وأدرك كم نحن بعيدات وإن تشابهنا في الظاهر، وكم أن فرص التلاقي أو التقارب تتقلص أكثر وأكثر، فتزداد وحدتي أكثر وأكثر.

 

هل صحيح أن تجارب الأمهات الأخريات قد تكون السند لتجاربنا الخاصة؟
أفكر في إجابة هذا السؤال، وأنا مُترددة بين كل ما مثَّلَته لي نصيحة أو جملة سمعتها من عون وسند وقت الشدة، وشعوري بأن كل ما أمر به مهما تشابه مع الآخرين، فهو مُتفرد بذاته.. تجربتي مُتفردة. ليس لأنها الأفضل، بل لأن لها ظروفها وخصائصها، بها توحد كبير مع الذات والنفس، وبها اختلافات جوهرية لا يُمكن المواربة فيها.

 

هل أمر بنفس المرحلة التي مررتِ بها؟ هل بلغت ابنتي العامين كما فعل أبناء أمهات أخريات؟ هل… هل… هل…

ربما ستكون الإجابة على كل هذه الأسئلة بنعم، لكن كل أم تقرأ كلماتي الآن ستعقب هذه الـ”نعم” بـ”لكن” ثم جُملة شخصية للغاية، تُجسد تجربتها ومدى اختلافها عن الأخريات.

 

ربما لهذا تضاعف شعوري بفكرة الكوكب الوحيد وفلكه المُحدد، في اللحظة التي وُلدت فيها ابنتي. قد يبدو في الظاهر أنني أدور وأدور في مساري، فلا بد أنني أعلم تمامًا ما هو قادم، أعلم طريقي وخط سيري، بالتكرار، لكن لا، لا أملك أي ضمانات في هذا المسار، فهناك دائمًا مفاجآت، هناك دائمًا ظاهرة ما، أمر جديد يجب عليّ التكيف معه، وتطويعه، بل إنني في مرحلة ما قد أحارب لأيام وليالٍ حتى أظل في ذلك الفلك ودوراني الروتيني الذي كُنت أتذمر بشأنه مُنذ دقائق.

الوحدة الناتجة عن كوني أصبحتُ أُمًا، بدأت كما قلتُ مُنذ اللحظة التي وُلدت فيها ابنتي. أنجبتُها وحدي.. ووحدي هنا أعني بها دون وجود نساء أخريات مررن بالتجربة ويفهمن ما أمر به. بمعنى آخر نساءُ العائلة واللاتي يقتضي موروثنا الثقافي أن يجتمعن ويتناوبن على الحضور بجوار كل أم جديدة في العائلة.

 

تكفَّلتُ بها وحدي، وكان هذا يعني أنني لا بُد أن أعلم تمامًا ما يجب فعله، متى، ولِمَ، دون أي خبرات سابقة، دون وقت لتلقي نصائح قد تُفيدني وقت الحاجة -أحيانًا حتى دون أن أسأل- لأنني ببساطة سافرتُ لألد ابنتي بوجه مُتحمس، وكلمات ليس بها ذرة خوف من أن أكون وحيدة في موقف كهذا.

 

أداءٌ عام من القوة التي جعلت حتى نساء العائلة اللاتي مررن بالتجربة، يُصدقن أنني قادرة على التعامل مع الموقف بأكمله. تاريخٌ من الاعتماد على النفس، الاستقلال، والتصرف في أغلب المواقف وحدي، عزز هذه الفكرة أيضًا، حتى وأنا أسعى لكسرها.

 

في الأيام الثلاثة الأولى، كُنت مُتماسكة -أم كُنتُ أدعى التماسك؟!- في اليوم الرابع بكيت، وفي اليوم الخامس اعترفتُ لزوجي أنني أريد تقديم موعد سفرنا، بعد أن كُنت أنا من يحاول إقناعه بتأخيره، لأنني أخاف السفر بابنتي الصغيرة وهي لا زالت في عمر أيام.

 

في لحظة ضعف امتدت لأيام، اعتقدتُ أنني بمجرد رجوعي لمصر ستختفي وحدتي وقلة حيلتي. ولكنني في لحظة تالية لها، أدركتُ تمامًا أن لا أحد يستطيع أن يقوم بما أقوم به، ليس بالطريقة التي أريدها، ولم أكن مُستعدة للتنازل عما أراه الأفضل لابنتي، وقد أثبتت لي الأيام هذه الحقيقة.

 

من وقتها وترادف الأمومة مع الوحدة يتعاظم بداخلي أكثر، وتشبيه الكوكب الوحيد يلاحقني بكل قوته.

سؤالٌ أخيرٌ بداخلي لا يُمكن تجاهله: هل أنا فقط من يشعر بهذا الأمر؟!

المقالة السابقةوما الحب إلا…
المقالة القادمةمارس شهر القوة والحب
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا