الآنسة “م” تأكل البقسماط في الصباح

2403

بقلم/ أمنية الحفناوي

مشهد (1) نهار داخلي:
تجلس الآنسة “م” بجانب الشباك تغتسل بنسيم الشروق الهادئ، وتضع بجانبها كوبًا من الشاي بلبن وقطعة من البقسماط. تنظر إلى النهار بصفاء وتتمنى لنفسها يومًا جميلاً، تبدأ في تناول وجبتها، مسكت قطعة البقسماط وشرعت في غمسها بهدوء داخل الكوب.

تقول الآنسة “م” في قرارة نفسها: “هكذا تبدأ الحياة، والبدايات عادة مشرقة، البدايات تقول إن المشهد سيظل برَّاقًا لأطول وقت. هكذا تبدأ الحياة، تُقنعك أن الخيارات ملكك، حر أنت وصاحب القرار، تمسك زمام الأمور، تعرف جيدًا ماذا بعد، قطعة البقسماط في يدك، انزل بها إلى العمق، ادفعها إلى قلب الرحلة، قطعة البقسماط هي عمرك”.

مشهد (2) في عمق كوب الشاي بلبن:
تصطدم قطعة البقسماط بسطح خليط الشاي واللبن، تتوه بين سواده وبياضه المتناقضين، تعرف أن الاختلافات تصنع شيئًا جميلاً، تغرق أكثر داخل الكوب، تضربها الأمواج الساخنة للخليط، تنساب داخلها، تحتل مسامها، تلف حول نفسها وتحاول التماسك، تتساءل ما الذي يحدث لها! أهذه هي الرحلة، أم هي خطوات نحو الذوبان والانكسار والتلاشي؟ تقاوم، تحاول الهروب، لكن يد الآنسة “م” تثبتها، الأمواج تضربها وهي تصرخ دون أن يسمعها أحد، مصيرها صار مجهولاً، مصيرها في يد شخص يشاهد التلفاز ولا يأبه بها، تعرف أنه لا فائدة، ينهار شموخها، تذوب وتسقط في الجُب.

تنتبه الآنسة “م” للحدث الجلل، تقول: “الحياة تسير هكذا، تدفعك إلى الرحلة لتكتشف أنها معركة، تُقلبك بين التناقضات وأحيانًا تزرعها داخلك، تصارعك الأمواج داخل مساحة ضيقة وعمق مظلم، تملؤك التجارب للذروة، الآلام، الوجع، النزف، السعي، الركض، الخوف، كل شيء له مكانه داخل عمرك، كل تلك الأثقال قادرة على هزم شموخك وإسقاطك في الجُب، لن يشعر أحد بمعركتك أبدًا.

مشهد (3) الآنسة “م” تفكر:
تقرر الآنسة “م” أن تسحب قطعة البقسماط من الكوب، لكنها غير متأكدة من صواب القرار، فلربما ما زالت صلبة، لكن ثواني فارقة ستذوبها. ماذا تفعل “م”؟

تضحك، تقول: “هكذا هي الرحلة، محاولة للتوازن ومعرفة الوقت الصحيح لفعل الأشياء، الوقت والحياة نقيضان وصديقان وعدوان، الحياة محاولة للتوازن فوق الحبل، والحبل يُنصَب فوق المجهول، إنها مقامرة، تدفع ما تعلمه لعل ما تجهله يأتي، مقامرة لها متعتها، ولهذا نقرر اللعب للنهاية.

مشهد (4) الآنسة “م” بجانب الشرفة:
تُفاجأ “م” بكل تلك الافكار التي أطاحت بعقلها، أكُل هذا من أجل البقسماط؟! نعم الحياة أحيانًا تتجسد في شيء بسيط وتضفي عليه صورة من صورها الكبرى. لكن يا “م” عليكِ أن تستمتعي بالصباح وبوجبتك الهادئة.

تتذكر “م” مشهدًا من فيلم “الأيدي الناعمة”، حين حاول الأستاذ “حمودة” أن يقنع البرنس أن “حتى” تلعب دورًا في جملة “أكلت السمكة حتى ذيلها” فيرد البرنس: “وأنا مالي بحتى؟ المهم إني آكل السمكة”.

آه يا “م”.. قومي والتهمي البقسماط. اعرفي أن فلسفة الحياة أحيانًا تُفسد علينا متعتها، لا تفسدي على نفسك بهجة الصباح. فلتبدأ الحياة وتسير وتنتهي. فلنلعب مع المجهول أو نترك اللعبة، فلنصالحه ونعاديه، فلنأخذ هدنة أو نكمل المعركة، فلنعطي للتناقض داخلنا مساحة واسعة، فلنجعل التجارب تأخذ مسارها، فما زالت النتائج رهن الغيب، أما الأكيد يا “م” أن الصباح جميل، وأن نفس الشروق بكر.

فهيا يا “م”.. ألقي من رأسك كل تلك الدوامات وانعمي ببقسماطة الصباح، فالصباح جميل يا “م”.. الصباح جميل.

 

المقالة السابقةإيه هي أسباب الإصابة بالاكتئاب أصلًا؟
المقالة القادمة15 نصيحة لحياة بدون توتر
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا