اعترافات خفيفة تليق بعامي الثلاثين

1343

 

بقلم/ أمنية الحفناوي

 

لنتفق في البداية أن الفكرة ليست درامية كئيبة، وأني لن أناقش الأمر كفتاة شارفت على الثلاثين دون زواج وتواجه ما تواجهه من الناس حولها، لن أحكي عن تدخلات الطيبين والطيبات في شأني أو حتى عن حزن “عم مصطفى جارنا”، حين يعرف أنه “مفيش عريس في السكة” ويقول لي “بس ماما لازم تتصرف”.

 

بصراحة أنا أكره التراجيديا وأشكر للآخرين نواياهم الطيبة، لذا دعوني أقدم اعترافاتي من خلال مشهد تشويقي “ساسبنس” أبدو فيه إنسانة أكملت ثلاثة عقود من العمر، وتبحث عن معنى جديد للحياة، لكن في البداية دعوني أسأل، هل سبق لأحدكم قبل ذلك الوقوف بجانب بركان منفجر تتساقط حممه في كل الاتجاهات؟ إن كانت الإجابة بلا، فإليكم هذه النصيحة، إن حدث هذا عليكم أن تراقبوا اندفاع الحمم وتحددوا مكان سقوطها ثم تقررون الهروب عكس هذا الاتجاه.

 

ومن هنا إليكم باعترافي الأول، وهو أني في مرحلتي العمرية تلك لا أفعل شيئًا غير الركض عكس اتجاه النيران المتساقطة، فالصراخ حولي يزداد ويتساقط كالحمم، الجميع يصرخون محذرين من سقوط الثلاثين عامًا فوق رأسي. في رأيي أن الأمر ليس بهذا السوء، لكن لهم رأيًا مختلفًا، ليس فقط لأني فتاة -أستطيع أن أؤكد لكم أن الرجال في الثلاثين لديهم أيضًا رعبهم الكبير- ولكننا في مجتمع يعشق أن يجعلك تتقوقع داخل أي شرنقة، حتى لو كانت مجرد رقم.

 

إنهم يخبرونني بأوهام دائمًا، يقولون إني أقترب من بؤرة الخطر، يخبروني أن الوهج سينطفئ بداخلي وسأصبح أميل للكآبة، سأظل أترقب فرصًا لن أجدها، يقولون في الثلاثين ستجد الضحكة طريقاً ضيقًا للقلب، ولا بد أن أستعد للتنازلات، لن أمتلك القوة للتمسك بأي شيء، وسأندم على حروبي الصغيرة والكبيرة، لا يجب أن أبحث عن رجل رومانسي يحمل لي الورود، بل عن رجل مهزوم يحمل المسؤولية، يقولون سيزهد قلبي وسيعرف عقلي التخلي، لا قوة ولا رغبة في الأحلام.. ما هذا؟! لماذا لا يعطونني مسدسًا لأطلق النار على رأسي؟! ربما لأنهم يدركون أني سأصوب عليهم أولاً.

 

لذا سأقول لكم اعترافي الثاني، في وهلة صدقتهم وآمنت وتملكني الرعب، لكن حينما اقتربت من حقيقة الثلاثين نفضت عني الغطاء وصرخت فيهم كفوا عن هذا الجنون الذي سيقودني صراخكم إليه واصمتوا للأبد.

 

ولينقلنا هذا إلى الاعتراف الثالث، سأعترف بأن هذه السنين تركت في أثرًا، تركت ذاكرة محملة بالتجارب والصور، خوفًا من الأشياء التي تحمل معنى الغياب، إحساسًا بالإرهاق، ورعبًا من المشاهد المكررة. لكن كل تلك الأشياء منحتني القوة، صرت قوية إلى حد لم أتخيله.

 

وأنا في سن العاشرة حاولت أن أتعلم قيادة الدراجة، لكني فشلت، كنت أشعر بالإحراج إذا وقعت أمام الناس، وأمي كانت تخشى أن تترك الجروح علامات في جسدي، وفي بداية التاسعة والعشرين، قررت أن أفعلها مرة أخرى، لكني لم أعد أشعر بالإحراج إذا وقعت، ولم أعد أخشى الجروح، وحين تركت لي المحاولات المتكررة والسقوط ندبة واضحة في ساقي، أحببت تلك الندبة، أحبها وأتمنى ألا تروح.

 

ملاحظة: الثلاثون هو عام القوة والندوب التي لا تروح.

ألم أقل إن الأمر بسيط؟ لمَ لا ندع إذًا العمر يسير دون هذا الحِمل من التراجيديا والخوف؟

بكل بساطة.. الثلاثون منحتنى الوقت لكي أفهم معنى الوقت، في العشرين كنت أسعى بكل جدية وصرامة للمستقبل، نسيت الخفة، نسيت البهجة، أهكلت الوقت حتى لا يضيع الوقت.

 

لكن اليوم بكل بساطة، أحب الوقت وأعرف كيف أجرى وراء أحلامي لكي أسعد بها، لا لكي أنفي داخلها، الوقت لي وحدي، لن أمنحه لأحد ليخسرني إياه، لن أسمح باستنزافي، أرمي عن كاهلي ثقل الآخرين.

 

لا أشعر أبدًا بالخوف، أدرك جيدًا ما أنا عليه وأدرك ما أحمله في حقيبتي للآتي، أعرف الآن ماذا أريد حقًا وكيف أصل إليه، أريد مزيدًا من الِخفة، مزيدًا من البهجة، الآن أبحث عن الشغف، عن الجنون، عن قصة حب عاصفة، أتساءل كيف أمضيت العمر دون أن أتعلم رقص الفالس، وبلا تعلق بموسيقى الجاز كيف لم ألبِّ دعوة للمشي تحت المطر.

 

ما زلت أبحث عن حربي الكبرى، ما زلت أبحث عن التفاصيل، التفاصيل التي تمنحني الخفة، أنا مالكة أمري وبطلة قصتي، لا مزيد من التنازلات، بل متشبثة أكثر بما أحلم، لأن الحلم صار واضح المعالم.

 

لا أخاف أثر الحياة عليَّ، كل علامات الكبر، الجروح، الندوب، التجارب المؤلمة، كل هذه أشياء تقول لي أنت هنا وإن الحياة تتذكرني وإنني حية، وإن المشهد خفيف وبسيط لا يستحق كل هذا الرعب.

 

لا أفعل شيئًا غير الركض

 

المقالة السابقةليه منديش المطلقين فرصة تانية؟
المقالة القادمةتشتري كلب؟ لا.. عايزة آلة زمن
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا