استعدادات رمضان اللي قسمت وسطي

609

أجلس أمام حاسوبي لأنتهي من وضع اللمسات الأخيرة على مقالتي، التي تأخرت فترة لا بأس بها لتسليمها، والتي كنت قد استيقظت مبكرًا لأنتهي منها، فأظل طوال اليوم حرة لا أفعل شيئًا، حتى وجدت ست الحبايب تدخل عليّ غرفتي، وبعد صباح الخير وكيف الأحوال، وبمجرد أن عرفت أنه لا يوجد لديّ اليوم شيء لأفعله، أخبرتني بأن رمضان على بُعد أقل من أسبوع، وأنه يتحتم علينا أن نبدأ في عملية “التنضيف” الشاملة الكاملة اللولبية الحلزوينة، والتي ستبدأ من هذه الغرفة التي لا ترى النظافة، نظرًا إلى أنني أعيش فيها، طبعًا لأنني في نظر أمي كائن أهوج غير مُنظَم يحتاج إلى إشراف دائم على ترتيب حاجياته وتنظيف المحيط الذي يعيش فيه.

 

لم أصدقها في البداية، فقد نظفنا المنزل وقلبناه رأسًا على عقب منذ بضعة أيام فحسب، وحين أخبرتها هذا، مدت يدها إلى مكتبي متلبسةً شخصية مدام نظيفة، لتُمرِر أناملها بخفة عليه، ولتنظر لي في حيرة وتتساءل: “وما كل هذا التراب إذًا؟”، وعلى الرغم من أنني لم ألقَ أثرًا للأتربة على أصابعها، لكني لم أجادلها، فأنا أعرف أنه حين يتعلق الموضوع بتنظيف البيت فلا يجب أن تخوض نقاشًا مع أمي تُقنعها فيه أن البيت نظيف فعلاً وأنه لا حاجة لكل هذا التعب، لأنها بالضرورة ستتهمني بأني لن أصبح زوجة جيدة، ومش بعيد يتم تطليقي في الصباحية لأني لا أعرف كيف أُبقي بيتي نظيفًا، وهكذا، تلاشت كل أحلامي في قضاء نهار فارغ من أي شيء سوى من مشاهدة أفلام الكرتون على قناة ميكي أمام عيني.

 

وفي مشهد يشبه استعدادت بطل الفيلم لخوض المعركة مع الأشرار، لفّت أمي الحبيبة رأسها بالإيشارب الصغير الذي تُطلِق عليه “المعصبة”، وشمرت عن أكمامها، وأكمامي عنوة طبعًا، ثم أحضرت الجردل والممسحة والزعافة وجلانس ماسح الزجاج والمكنسة الكهربائية، ووضعتها جميعًا على مقربة منا، لكي نشرع في مواجهة الأشرار، أقصد الغبار.

 

رفعت أمي كل ما يمكنكم تصوره من سجاد، حتى المشايات الصغيرة جدًا التي ليس من الممكن أن تكون قد اتسخت لأنها كانت قد غُسِلت من فترة قريبة، جعلتني أُغير جميع ملاءات الأسرة التي كنا قد غيرناها منذ بضعة أيام، وأن أضع كل ما تقع عليه عيني في الغسالة، أقمشة، أغطية أنتريه، مفارش، حتى الدُّمى القماشية الصغيرة التي تحتل جزءًا من سريري، ارتأت أنه من الواجب أن تأخذ حمامًا في الغسالة حتى تستقبل رمضان ناصعة الألوان.

 

لم يُترَك شيئًا لم يتم مسحه أو تنظيفه، حتى الثلاجة أُفرِغَت من محتوياتها ومسحها عن بكرة أبيها لتصبح ناصعة البياض بدورها، حتى بات كل شيء يلمع زيادة عن اللزوم، في الوقت الذي تحوَّلت فيه عظامي إلى بطاطس بيوريه، كنت أشعر بالألم يعتصر كل جزء في، يتسلل من رأسي حتى أخمص قدمي، وحين أشرت لأمي بعلامة طلب وقت مستقطع في المبارايات، لأن ما يحدث كفاية حرام، نظرت إليّ في سخرية قائلةً “على فكرة لسة فاضل المطبخ والحمام”، أقسم أنني كدت أبكي، كادت الدمعة أن تُفارِق مقلتي، لكن هذا لم يؤثر في ست الحبايب، ولم ترمقني ولو بنظرة استعطاف واحدة، فقد جاءت لمهمة كبرى سوف تُنفذها مهما كلفها الثمن، ومهما سقط منها جنود بواسل، ستنهي المعركة مع الأشرار، أو الغبار، لآخر نفس.

 

انتهى اليوم العصيب أخيرًا، وما كدت أن أرتمي على سريري حتى وجدتها تقول “بكرة بقى نروح نشتري الياميش وحاجات رمضان”، دفست رأسي في المخدة ولم أخبرها أنني لا أستطيع حتى أن أفكر مجرد تفكير في هذا البكرة الذي تتحدث عنه.

 

ما جعلني أحتار في الأمر أن أمي امرأة نظيفة جدًا، بيتها دائمًا “بيرلانت” مثل الصيني، لم تكن تنتظر عليه أكثر من أسبوع لقلبه القلبة التي يستحق، ليتم تنظيفه من أصغر لأكبر شيء فيه، فلماذا تصر على فعل هذا قبل رمضان تحديدًا؟! ثم تذكرت أننا سنقوم بحملة مماثلة في نهاية رمضان قُبيل العيد، مجرد الفكرة وحدها أسرت الألم في مفاصلي وأطرافي، مغمغةً “والله لأهرب يومها”.

 

بمناقشة الأمر مع صديقاتي اتضح أن هذا سلو كل بيت مصري أصيل، وأن النساء المصريات -حتى الحريصات منهن على نظافة البيت دائمًا- ينفضن البيت عن بكرة أبيه قُبيل المناسبات الخاصة، كرمضان والعيد على سبيل المثال لا الحصر، بل إنهن يعتبرن هذه الطقوس بمثابة استهلال لمناسبة خاصة واحتفال بقدومها، ولا أعرف لماذا لا يحتفلن بشيء آخر أقل إرهاقًا وتعبًا، ماله تعليق الفانوس يعني؟!

 

نعم، تحرص أغلب النساء المصريات على إرهاق أنفسهن في العمل المنزلي، سواء في تنظيفه أو في شراء كميات كبيرة مما قد يحتاجه البيت خلال فترة معينة، خصوصًا إذا ما قاربت هذه الفترة حدوث مناسبة ما، هذا برغم حرصهن الدائم على تنظيف بيوتهن وشراء احتياجاته، وهو شيء لا أفهمه فعلاً، فلماذا كل هذا التعب إن كنا ننظف منازلنا باستمرار، لماذا نعمل عقولنا بالغبار ونشغل بالنا به في هذه المناسبات تحديدًا، إلى حد يُهلكِنا ويستنزف صحتنا؟! ولماذا ترتبط هذه المناسبات بشراء كميات مهولة من الطعام اللازم لها، فلماذا نشتري حاجيات بأثمان خرافية استعدادًا لمناسبة دينية في الأساس تحض على الزهد والتقوى؟ لماذا نحرص على أن نقيم الموائد ونطبخ صنوفًا متلونة من الطعام لا يُستهلك ربعها حتى؟ لماذا لا يمر هذا الشهر كغيره من الأشهر في سلام، بمائدة بسيطة وصنف واحد من الطعام والحلوى وتنظيف عادي لا يحتاج إلى كل هذا المسح والكنس والغسل، وكأننا على وشك أن نأخذ جايزة أنظف بيت في العالم؟ مع أن البيت يكون نظيفًا في المقام الأول!

 

أسئلة كثيرة لم يجبني عليها أحد، وإذا أمعنت في البحث عن رد لها في هذا الشهر تحديدًا لا أجد سوى جملة “رمضان جانا”، فأصبحت عادتي أن أتخوف قُبيل كل رمضان بسبب أسبوع النظافة الشرس وشراء الحاجيات الخطير، وأنا أتساءل بصوت سلطان السكري بحذر قائلةً: “إنت جيت -شهقة- يا رمضان؟!”.

المقالة السابقةريحة صواني مفحفحة.. وكوستاليتا مشوَّحة
المقالة القادمةرأيت الله يقينًا وإيمانًا
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا