أنت معجزة تسير على قدمين

790

“على جنب يا أسطى”، يستجيب السائق متذمرًا، فقادة الميكروباصات لا يحبون التوقف كثيرًا؛ “الرزق يحب الجري”، هكذا يؤمنون، لذا يسارع بالتحرك بينما إحدى قدمَي ما تزال داخل الميكروباص، أصرخ “استنى يا عم!” فيرد باستهزاء “خلصي.. هتنزلي في 100 سنة؟!”.

 

لا يعلم سائق الميكروباص المتعجل أنني حامل في الشهر الثامن، لم ينظر لضحيته التي سارت في الشارع ممسكة بظهرها الذي يؤلمها طوال الليل، لم أكن يومها بحاجة لمزيد من الألم، لكنه قدري على ما يبدو، كما أنه طقس يومي، الشوارع لا تحترم الأصحاء، فما بالك بالمرضى والعجائز والأطفال، بالتأكيد الأمر لا ينقصه الحوامل أيضًا.

 

أسير تجاه عملي، أحاول أن أهم السير كعادتي، لكنني لا أستطيع، قدمي اليسرى تحولت إلى كتلة من الألم منذ دلفت إلى الشهر الثامن من الحمل، لا أقوى على لمسها لفرط الألم بها، مشهدها في حد ذاته مثير للشفقة، العروق النافرة، التورم الذي يتوسطها، انتفاخها عمومًا، هذه ليست قدمي، إنها تخذلني بشدة، هكذا أسير فيبدو العرج واضحًا، أحاول أن أتحامل على قدمي اليمنى كي تبدو مشيتي أقرب للطبيعية، لكنني أعتمد عليها أكثر من اللازم منذ أسابيع؛ بدأت تتخاذل هي الأخرى، يتصاعد الألم بمجرد أن تلمس الأرض،محادثة داخلية عنيفة بيني وبين قدمَي من أجل الوصول إلى مشية طبيعية غير لافتة، لكن الأمور تخرج عن السيطرة، ها أنا ذا أعجز عن السير بطريقة طبيعية، بل أسير بالطريقة التي أكرهها وأخشى أن أبدو عليها منذ أول يوم في الحمل “مشية الحوامل”.

 

لا شيء يعيب مشية الحوامل، لكن التجربة تعطي صاحبها فكرة جلية عما تتعرض له صاحبة القدمين المتخاذلتين من تنمر وسخرية، تارة بقصد، وتارات أخرى دون قصد.

في تلك الحالة يتحول المرور إلى جانب الشحاذين إلى أمر ثقيل، فجأة تجد الدعوات توحدت، على اعتبار أنهم يسدون إليكِ معروفًا بذلك النوع من التعليقات والأمنيات “ربنا ينتعك بالسلامة، ربنا يديكي ساعة سهلة، يا رب تقومي على خير”.

 

يتحول حقك في وقوف هادئ للميكروباص حتى تصعدين وتهبطين منه إلى منحة من السائق، يعطيها لكِ فقط لأنك حامل، وليس لأن هذا حقك البشري الطبيعي، ويتوقف الأمر بالكامل على ملاحظته، حدث معي هذا في يوم لاحق، حين مارس السائق هوايته الأثيرة في التحرك بمجرد ركوبي السيارة قبل أن أجلس، صرخت فيه حين شعرت بمزق في ظهري، فاستنكر صرختي “فيه إيه؟! ما تقعدي!” لكنه حين لاحظ حملي شعر بواجبه أخيرًا، فتوقف حين هممت بالنزول، ومنحني اعتذار “حقك عليَّ يا أختي”.

 

يبدو كل هذا تافهًا للبعض، كان الأمر كذلك بالنسبة لي، ففي حملي الأول بابني “يونس”، لم أكن أشعر أنني حامل من الأصل، كنت خفيفة كالفراشة حتى الأشهر الأخيرة، فوجئ البعض عندما وضعت صغيري أنني كنت حاملاً من الأساس، لم أشعر بتلك الحالة من قبل، بل أنني كنت أباهي أنه لا تبدو عليَّ آثار حمل، كأن الأمر سبة! هذا ما جعلني أقلل من أهمية منشورات صديقاتي الحوامل لاحقًا.

 

شكت إحداهن من المعاكسات الجنسية الوقحة التي تتلقاها، فقط لأنها حامل ويبدو الأمر واضحًا عليها بشدة، واعترفت إحداهن أنها تعرضت لما يشبه انهيارًا عصبيًا انخرطت بعده في نوبة بكاء شديدة بسبب السخرية العارمة التي تعرضت لها، ذكرت يومها عبر صفحتها الشخصية الجملة القاتلة التي اختارها قائلها بعناية.. وقتها لم أشعر بألمهن إلى حد بعيد، وشعرت أنهن “بيأفوروا”، بل أنني قلت لنفسي “جمل تافهة من ناس تافهة نتضايق بسببها ونزعل ليه؟”.

 

الغريب أنني -على معاناتي- حتى الآن لم أتلق واحدة من تلك الجمل القذرة، لكنني أمتلك فكرة عنها، لذا أتجهز بالرد حاضرًا في عقلي وعلى طرف لساني، رد يخص المتنمر أو صاحب المعاكسة إذا ما قرر أن يوجِّه لي تشبيهًا ما أو جملة لا تعجبني. مسألة مقرفة بالكامل وحِمل إضافي لا ينقص صاحبات الوزن الإضافي والحركة البطيئة أمثالي.

 

شاهدتني زميلة العمل أسير ببطء شديد -كان هذا آخر ما اهتديت إليه كي أتعامل مع الآلام في قدمي- فتنمرت عليَّ بطريقتها الخاصة “مِدِّي شوية، المشي رياضة للي زيك”، لم أتمالك نفسي يومها إلا بعد “دش” من الردود النارية المنمقة التي أثق أنها قد أعادتها لصوابها، بحيث لا يمكن أن تُحدِّث حامل بهذه الطريقة مرة أخرى.

 

“ياه! إنتي لسة مفقستيش؟” تقولها زميلة أخرى مبتسمة، كأن “فقسي” سيحول حياتها إلى جنة، أحاول ألا أحرجها، لكن الأمور تخرج دائمًا عن السيطرة أخيرًا “ما هو أنا مش بيضة حضرتك عشان أفقس”، تتحول ملامحها باعتباري قد أهنتها، لكنها تتبسم أخيرًا “أنا مقدرة إنك حامل ومش في حالتك”. هكذا تسير الأمور في تلك المرحلة عمومًا، “أنتِ حامل.. أنتِ ضعيفة”، عليكِ أن تتحملي التنمر لأنك في وضع ضعيف لن يسمح لكِ بالرد، وعليك تقبل جملاً من عينة “يا حرام!”، و”مسكينة” و”هتخلصي إمتى؟”، أو لا تتحمليه لأنك أيضًا ضعيفة وحالتك لا تسمح باستقبال التنمر البريء الخالي من الأغراض.. أحب أن أدعوه “تنمر مجاني”.

 

في مواقع العمل، في الشارع، حتى داخل المنزل، يتعامل الجميع مع الحامل باعتبارها ضعيفة. يقدم البعض الأعذار، فيما يتعامل البعض معها من منطلق “مش ناقصاكي” أو “كفاية دلع”، لا يعلمون في الواقع أنهم قبالة جسد بشري يشهد تغيرات عنيفة، منذ اليوم الأول في الحمل، جسد تغيرت تركيبة دمه، ومستوى الهرمونات فيه، تغيرت أماكن الأجهزة الداخلية عن مواضعها الأصلية، انضغط القولون، وتقلصت المعدة وانكتمت الرئتان حتى الحجاب الحاجز لا يعود في موضعه، تغيرات مذهلة جدًا، لعل هذا ما دفع متحف العلوم والصناعة في شيكاجو لأن يقدم لزواره محاكاة حاسوبية للتغيرات التي تطرأ على جسم المرأة أثناء الحمل.

https://arabic.sputniknews.com/science/201703071022683433-%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%AC%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D8%A3%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%84/

المتنمرون من ضعفك لا يعلمون شيئًا عن ذلك الشعور السخيف بالغثيان لثلاثة أشهر أحالت حياتك جحيمًا، وحرمانك من اللذة الكبرى، الطعام، وتلك التغييرات العنيفة في قياسات ملابسك، لا شيء يعود يناسبك أبدًا، لم يقفوا أمام المرآة صباحًا في حيرة طاغية بحثًا عن قطعة لا تزال تناسب الجسد المتغير بشدة، لم يشعروا بتلك الآلام المفاجئة بمناطق جسدك المختلفة، تلك الوخزات المبرحة في ظهرك الذي تقوَّس، هم لا يعلمون أن نقطة الجاذبية في جسدك قد تغيرت، يعتقدون أنك ضعيفة لأن توازنك يختل بسهولة، لا يعلمون ذلك الضغط العصبي الذي تشعرين به باستمرار نتيجة “الزنقة”، لا أحد سيشعر بمقدار ضغط المشيمة على مثانتك ولا أحد سيؤلمه كل تلك المرات التي لم تحتملي فيها الانتظار حتى دخول دورة المياه، كل هذا التوتر بسبب تفاصيل لا تخص أحدًا غيرك، لن يشعر به أحد.

 

هم لا يعلمون أيضًا أن التغييرات تطول عقلك ذاته، لا يرون المادة الرمادية في مخك وهي تتضاءل، لتصير رأسك أكثر تخصصًا، وتساعدك على التأقلم مع الأمومة والاستجابة لاحتياجات طفلك

https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/news/pregnancy-causes-lasting-changes-in-a-womans-brain/

 

لا يعلمون أن من تحتمل هذا كله ومن بعده تجربة الولادة، قيصرية كانت أو طبيعية، ليست ضعيفة على الإطلاق، إنها تملك من القوة النفسية والروحية ما يمكنها حتى من التكهُّن بأمور في علم الغيب، حيث يمكن للأم أن تتكهن بجنس مولودها قبل أن توضحه أجهزة السونار، تارة بمشاعرها وتارة بأحلامها.

https://www.dw.com/ar/دراسة-علمية-حدس-الأم-ومضاعفات-الحمل-مؤشرات-على-جنس-الجنين/a-2694808

أنتِ لست ضعيفة، احتمالك لتساقط شعرك، وزيادة ضغط عينك، أيام الأرق الطويلة بلا نوم يُذكر، علامات الكلف وتمدد الجلد، الشامات والنمش، ضيق نفسك، وشعورك المبالغ فيه بالحرارة، عسر هضمك المزمن والحموضة الطاغية.. آلامك عمومًا لن يشعر بها سواكِ، ولن يقدِّرها سوى العالمين، وهم قلة، لذا قلتها لنفسي وأقولها لكل حامل من بعدي: “أنتِ حامل، لكنك لستِ ضعيفة، أنت معجزة تسير على قدمين، فلا تسمحي لأحد أن يفسد عليك لحظاتك الخاصة أبدًا.. تأرجحي في مشيتك، اهدئي في سيرك، تحركي على مهل، لا تخشي نظرة أو كلمة، فلا يعيب التنمر من الأقوياء إلا المتنمر ذاته”.

 

المقالة السابقةسلبيات ختان الاناث ومخاطره، تاثير ختان البنات على العلاقة الحميمة
المقالة القادمةأجمل افكار لزينة رمضان سهلة بالورق والفوم
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا