أنتِ غير كافية

1119

أكتشف.. أنا أشعر بالغضب.

تتنهد روحي في راحة مشوبة بحزن.. أخيرًا.

كانت كالغريق الذي انتشلوه في آخر لحظة من بين الأمواج العاتية.

لقد ظللت لفترة طويلة أبحث في حقيبة مشاعري حتى أعرف كنه هذا الشعور. تأرجحت بين الحزن تارة، وبين الإحباط تارة أخرى ومرات بين الاكتئاب، لكني الآن عرفت أن ما أواجهه حقًا هو الغضب.

أراه الآن يواجهني بنظراته النارية، كشخص مستاء يريد أن يكيل اللكمات لمن حوله، يريد أن يركل أي شيء وكل شيء بلا توقف. شخص بداخله طاقة جبارة من القلق وخيبة الأمل والنفور، والرغبة في التدمير تحرمه من الشعور بالرضا.

أحاول هدهدته بلا فائدة، أحاول منحه الشعور ببعض السكينة يرفضها باستمرار. ينظر إلى قلبي ويشير إلى السبب، إنها تلك الثقوب النازفة التي سبَّبتها كلمات الآخرين ومفاهيمهم بأنني دومًا وأبدًا غير كافية، وأنني لا بد أن أفعل شيئًا ما لكي أحظى بالقبول والرضا والحب. فبُنِي داخلي جدار من الغضب، والسبب باختصار هو “أنني غير كافية “.

(1)

كنت صبية لا أتجاوز الـ7 سنوات، عندما قالت قريبتي وهي تمصمص شفتيها “شعرها خفيف جدًا يا حرام! لن تتمكن أبدًا من صنع غرة مثل أي فتاة جميلة”، أمام الجميع. ثم أشارت إلى غرة ابنة خالي بـ”أليست فتاة جميلة ورائعة حقًا؟!”.

وقتها تكوَّن أول حجر في جدار غضبي، فجمالي الذي خلقني به الله غير كافٍ في أعين من حولي، لم يفهم قلبي الصغير سوى أنني غير كافية، عليَّ أن أفعل شيئًا لكي أكون جميلة، وإذا لم أنجح فعليَّ أن أفعل شيئًا ما لكي أحظى بنظرة القبول الدافئة والمطمئنة التي وجهها الجميع بلا مقابل لابنة خالي، التي أحبها كثيرًا.

(2)

ثم كانت أمي عندما حاولت إقناعي بما أخبرنها به نسوة العائلة، بأن الفتاة لا تصبح ذات أنوثة مكتملة إلا بإتقان شتى الأعمال المنزلية، وعلى رأسها الطهو. عاندت أمي كثيرًا، كنت أسخر من قريباتها وأخبرها بشفقتي عليهن، لكن بداخلي كان الحجر الثاني في جدار غضبي ينمو بمنحنيات ونتوءات تجرح من يلمسها أو يقترب منها، فأنوثتي منقوصة في أعين من حولي ومن أحبهم إذا لم ألتزم بكتيب التقاليد التي وضعوها. أي أنني غير كافية وعليَّ أن أفعل شيئًا مرة أخرى كي أحظى بالقبول.

(3)

وفي رحلة البحث عن شغفي كانت الكتابة تطل برأسها، لتخبرني وهي تبتسم “ها أنا ذا أمامك شغفك الجديد”، فأسعى إلى أن يكون شغفي هو عملي، وأبحث عن كل وسيلة ممكنة لتطوير نفسي. ولكن بين زحام ساعات العمل الذي لا يتوقف تخبرني تلك المسؤولة بأن ذلك لا يكفي، عليَّ أن أقدم قرابين لبعض الكبار في المهنة من مدح وأحيانًا تملُّق لكي أحظى بفرصتي في ذلك النجاح المنقطع النظير، وكي تجد تلك الكلمات التي أكتبها حظها في الانتشار بين الجميع.

ومثل صوت صفارات الإنذار التي تدق بشكل عنيف لتنذر المارة من القطار القادم ويكاد يدهسهم بسرعته، كانت تلك الصفارات تدق في رأسي بقوة، ولكن لتخبرني مما أخاف وأهرب منه دومًا “أنا غير كافية”. وينمو جدار غضبي أكثر، فحتى الموهبة ستظل غير معترف بها من المجتمع، إذا لم أقدم أو أتنازل عن شيء ما، حتى لو كان ذلك الشيء “احترام الذات”.

(4)

وأتى زواجي، وجاءت معه النصائح والإرشادات عن دور المرأة الكبير في إنجاح منظومة الزواج. لم أنتظر كثيرًا، فطبَّقتها رغبة في جني ثمار السعادة، ولكنها كانت نصائح لا تتوقف أبدًا مثل أغنية حزينة على شريط كاسيت قديم نسي صاحبه أن يغلقه، فظلت تتردد بلا توقف حتى صارت مملة وقاتلة.

فمهما صنعت فهناك دومًا الأدوار التي يجب إتقانها، ومهما فعلت أنا مُقصِّرة، ومهما قدمت فعليَّ التضحية وإنكار الذات. حتى شكل جسدي وشعري اللذين تغيَّرا بفعل الحمل والولادة عليَّ أن أخجل منهما، وأن أفعل أي شيء وكل شيء لكي أظل الزوجة الجميلة، وإلا فعليَّ تحمُّل ما لا يُحمَد عقباه من سخرية وغياب الحب، لأن شخصيتي وحدها غير كافية.
..

“مرحبًا.. لقد تجاوز ارتفاع جدار غضبك الحد المسموح به”، هي رسالة الإنذار التي أرسلها لي قلبي الموجوع مؤخرًا، بعد عجزي عن رؤية أي جمال في الحياة، وعدم قدرتي على الاستمتاع بهدوء بأي شيء مما منحه الله. أحاول تجاوز هذا الجدار بالقوة مرة أو التجاهل مرات، ومواصلة حياتي، ولكن بلا جدوى، فقد صارت أحجاره فولاذية وارتفاعه بطول السماء، والحل الوحيد الذي يبدو متاحًا هو مواجهة نفسي وتفهُّم غضبي والتفاهم معه.. وهو ما كنت أخشاه.

أما نتيجة تلك المواجهة فهي أن هناك شعورًا حَفَره الآخرون بكثير من القسوة، داخل روحي، بأنني دومًا ولا بد أن أفعل شيئًا لكي أحظى بالتقدير والحب، فجمالي الذي خلقني به الله منقوص، وأنوثتي غير مكتملة، وموهبتي غير مُعتَرف بها، وشخصيتي وحدها غير كافية، إلا إذا فعلت شيئًا إضافيًا، كأنني إنسان خلقه الله ناقصًا مجروحًا في إنسانيته، ولا أستحق الحب لشخصي البسيط.

ورسائل “أنتِ غير كافية” قد لا تأتي كما تبدو في الأفلام والروايات بشكل فَج ومباشر، بل أحيانًا كثيرة تكون ضمنية، وأحيانًا أخرى تكون غير مقصودة من الطرف الآخر. أما هذا الطرف فقد يكون -على غير المتوقع- صديقًا أو حبيبًا أو حتى أبًا أو أمًا، وليس فقط أعداء لنا، وهو ما يزيد من قسوتها ويجعلنا نؤمن بها، ففي النهاية أحباؤنا لن يضمروا الشر لنا أبدًا.

أما الحل النهائي والجذري فلم أهتدِ له، ولا أعتقد أنني سأهتدي له في الوقت القريب، فقط أدركت أنني يجب أن أتقبل ذاتي كما هي، ولا أنتظر رأي الآخرين أو أتأثَّر به، وأن أصاحب غضبي وأروِّضه، وإعادة استخدام أحجاره في بناء نفسي من جديد، مع تعليق لافتة كبيرة من لمبات النيون، حتى أراها دومًا، تقول “تستحقين الحب والقبول والرضا.. فقط لأنك أنتِ”.

المقالة السابقةحينما تُنجيك الأمومة من نهاية العالم..Bird Box
المقالة القادمةأنا ليه بعيط؟
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا