أنا أنتمي

398

أمي ستصنع اليوم (وقت كتابة المقال) “محشي”، لفائف من نبات أخضر محشو بالسحر، أنتظر انتهاء يوم العمل سريعًا كي أعود إلى البيت وألتهم أصابع الشغف تلك.. وأفرح.

 

هناك مقهى صغير في مكان ما في الإسكندرية، يقدم النسكافيه والشاي الزردة وأخبار القتل والقمع، على طاولات من الخوص ومقاعد مريحة ذات شلتات خضراء وحمراء داكنة، لوحات على الجدران وجرسونات لا يضايقونك كل خمس دقائق بقولهم “تؤمر بحاجة”، تشغله غالبًا العائلات وترى أطفالاً كثر حولك وتسير الحكايات في الجو فتدفئه.. وأفرح.

 

يأتيني صوت عبر هاتف العمل غير مدوّن على الذاكرة، من كلمة “آلو” أعرف صاحبه، تلك البحة العميقة والابتسامة الخجلانة التي تسري عبر شبكات سيئة التغطية تمنع صاحب الصوت من أن يصل لي على هاتفي الشخصي فيكلمني على تليفون العمل، ويبدأ المكالمة بمزحة أعرفها.. وأفرح.

 

لديّ كتب كثيرة متناثرة على فراشي وتحت وسادتي وعلى أرض الغرفة وفي المكتبة المرتجلة التي صنعتها من إحدى ضلفات النيش العملاق الذي يحتل جدارًا كاملاً وحده، أحيانًا أتأمل الكتب وأتلمسها، ربما أنتقي منها ما أقرؤه وربما أعيدها لمكانها بعد أن أتذكر بضع لحظات.. وأفرح.

 

أنا أنتمي إلى أصابع المحشي ومقهى الفيشاوي وصوت صديقي المقرب وكتبي ومفاتيح جهاز اللاب توب الخاص بي، أنتمي إلى ملابسي وأصدقائي وعطوري الرخيصة ورقم هاتفي الذي أعافر كي لا أغيّره رغم التوترات بيني وبين شبكة المحمول.

 

أنتمي إلى حساب الفيسبوك الخاص بي بكل تاريخه الشاهد على الانتصارات والإخفاقات، إلى النوتة الزرقاء التي كتبت فيها منذ سنوات حروفًا بالقلم الرصاص تموهت وأضاعت معالم الحكاية، لمطواتي الزرقاء التي اضطررت يومًا ما لشحن حقيبتي الخفيفة لأنهم منعوني من الصعود بها للطائرة، وإلا كان عليّ أن أستغنى عنها وأتركها لعسكري المطار ذي الشارب والبدلة البيضاء الباهتة.

 

الانتماء ليس فقط إلى الأرض أو الوطن، في كل خطوة لك هناك انتماء أنت لا تقصده ولا تعيره انتباهًا، اإنتماء لن تعرفه وتتنبه له إلا إذا وضعتك الحياة في اختبار يذكرك به.

أنت تنتمي إلى ما تحب، إلى انتصاراتك وإخفافاتك، إلى قراراتك المصيرية التي تشكل حياتك وتصنع تاريخك، إلى أماكنك المفضلة وأكلتك المفضلة، وصديقك المفضل.

 

أنت تنتمي إلى الفكرة التي تخبرك أن لك جذورًا ما، أنت لست معلقًا بخيط في الفراغ، الانتماء الذي نبحث عنه في الوطن أو في التوجه السياسي أو في الحبيب أو في البيت، الانتماء الذي يطمئننا أننا لدينا ما نعود إليه.

 

نستبدل انتماءنا طوال الوقت، فنحن ننتمي إلى الوطن إلى أن يضيق بنا، فنبحث عن فرصة في مكان أفضل وننتمي إلى حلم بالراحة والمستقبل، نغترب ويقتلنا الحنين فننتمي إلى شخص ما وخطة أن نمتلك بيتًا وأطفالاً لنخلق انتماء جديدًا، وهكذا.

 

صدقني لن تعدم فرصة الانتماء، فحياتك وحياتي مليئة بالأشياء الجديرة بالانتماء إليها، وإذا خذلتك أشياؤك -رغم الإفيه المضحك- فابحث عن أخرى وستجد.. وستفرح.

 

لا عيب في الانتماء اللحظي، فأنا أنتمي في بعض أيام الجمعة إلى المقهى الصغير، أما اليوم فأنتمي إلى حلة محشي.

 

وأنت.. أخبرني عما تنتمي إليه، وأعدك أنني سأقرأ ردك بعد أن أقضي على المحشي اليوم.

المقالة السابقةكيكة الفواكه
المقالة القادمةطـوق “نـ”جاة
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا