أحب الطقوس إذا ما استطعت إليها سبيلاً

843

أحب الطقوس إذا ما استطعت إليها سبيلاً. في الصباح أتناول مَجِّي المفضل وأنا أوجِّه له عرفانًا وامتنانًا كبيرين، لأنه هنا، موجود لجرعة الشاي باللبن الصباحية الكبيرة، كما تمنيت، وكما أنتظر منه كل صباح. أعرف أن هذا المج مسكين، وأنه لم يختر أن يكون في مطبخي، ولم يختر بالطبع أن يكون نظيفًا مُعلَّقًا في الصباح، أنا فقط من اخترت ألا ينتهي اليوم الماضي قبل أن أغسله، حتى أجده في الصباح جاهزًا دون مجهود. ولو أني حملته مسؤولية وتوقعات أكبر من حقيقة كونه مجرد مج، سينكسر، في لعبة قدرية شهيرة ومعادة لآلاف المرات.

 

أنا امرأة طقسية، أحب الطقوس، وأتمنى لو أحظى بعلبة كبيرة من البسكويت المحشو بكريمة الجبن، لأنه صنفي الوحيد المفضل في صحبة الشاي باللبن، ولأني أُرهق جدًا من التفكير كل صباح في ما يمكنني أن أفطر به، ولأنني لا أستطيع أن أفكر في ما أريد أن أفطره أساسًا قبل أن أفطر! لهذا أريد علبة كبيرة من البسكويت المحشو بكريمة الجبن مع الأعشاب، وكريمة الجبن الأزرق، وكريمة الجبن الشيدر. أنا أريد هذه العلبة لتمهد لي الصباح بسلاسة، أريد لهذا الطقس أن يكتمل، ولكنه سيكون عبئًا خرافيًا على الميزانية، لأن بسكويتي المفضل مستورد. ولا، البقسماط والباتون ساليه وكعب الغزال لا يستطيع القيام بهذا الدور المحوري في طقسي الصباحي المفضل، والمُعطَّل.

 

أحب الطقوس، ورغم سخريتنا من جدتي، وما تعيده لنا وتزيده من أصناف الغداء منذ 30 سنة، فإنني أغبطها على هذه القدرة على الاستمرار، والتصديق في حل واحد، وعدم الملل من تكراره لآلاف المرات. البعض يظن أن الطقوس تعني خوفًا ما، وتعكس شخصية جبانة، تخشى خوض التجارب والتعرف على الجديد. ولكن الحقيقة أن الطقوس تحتاج لجرأة كبيرة، تحتاج لتصديق عميق، تحتاج لإيمان. ربما هذه هي الأسباب التي تجعلني أحب الطقوس ولا أجيد صنعها. أنا أتشكك في طقوسي عندما يسخر منها الآخرون، وأحاول دائمًا إعادة ترتيبها وتجميلها، لتبدو كما لو كانت شيئًا آخر، شيئًا ينال الإعجاب أكثر، شيئًا مبتكرًا كما لو كان اختراعًا. أنا مصابة بمتلازمة عدم التأكد، وهذا يجعل الطقوس في مهب الريح.

 

طقوسي في تغيير ملابسي كانت تسبب لأمي الإزعاج، ربما لأن معدلات تغيير الملابس كانت تتناسب طرديًا في رأسها مع حجم الغسيل المنتظر. كنت ولا زلت أعتقد أني لا يجب أن أفطر بنفس الملابس التي نمت بها، ولا يجب أن أشرب شاي العصاري بنفس الملابس التي طبخت وغسلت بها، ولا يجب أبدًا أبدًا أن أقضي وقتي الليلي الخاص الهادئ مع فنجان القهوة الفرنساوي، إلا وقد ارتديت بيجامة النوم. أي خروج عن هذا النص يوترني، ويسرب إليَّ شعورًا عميقًا بعدم الراحة مهما كانت انشغالاتي عبر اليوم، ومهما كان رتم اليوم سريعًا ولا يدع مجالاً للتفكير في الملابس، فناهيك بتغييرها! أتوتر إذا نمت قبل أن أضع لوشن مرطبًا للجسم واليدين، وربما يظل نومي مضطربًا، وأضطر للنهوض في منتصف الليل لأقضي على هسهس الخيانة! نعم، أعتقد أن الطقوس التي أفوتها ولا ألبي نداءها في وقتها، ستتهمني بالخذلان، وستتركني إذا تركتها.

 

تركت من قبل طقوس الأعياد التي كبرت عليها في بيت والدي، تركتها لأن لزوجي عالمًا آخر وطقوسًا أخرى، ولأن الإخلاص لطقوس أبي أصبح أمرًا صعبًا، محفوفًا بالشجن والعجز والهجر، ومن وقتها وأنا أبكي كل عيد. كان بيت أهلي يستيقظ في الأعياد مع شروق الشمس أو قبلها، نصلي العيد حتى وإن كانت أعيننا نصف نائمة، نوزع العيديات، ونفطر فطورًا يليق بالعيد، ونلعب ونضع خططًا للخروج والسفر والغداء، كل هذا قبل أن تصل الساعة للعاشرة صباحًا، من المزعج ألا تحصل على كفايتك من النوم.. إلا في العيد.

 

كنت أشاهد فيلمًا لم أعرف اسمه، وكانت الجدة فيه صاحبة وصفة بيتزا سرية، يأتيها الزبائن من كل مكان في العالم، ورَّثت لابنتها سر صنعتها، ولكن حفيدتها قررت أنها لا تريد أن تستمر في صنع البيتزا باقي حياتها. لا أعرف إذا كان من حق الأجيال التالية أن تقرر دفن أسرار الماضي أم لا، هذه قضية أخلاقية أعمق مما فكرت فيه. فكرت في أنه ليس لديَّ طقس سري خاص أورِّثه لابنتي أو لغيرها، ليس لديَّ في الحقيقة أي أسرار أجيدها بشكل خاص أو متفرِّد، هذه الفكرة كانت كفيلة بأن تصيبني بالحزن لعدة الأيام. الأمر ليس مزايدة في من يعرف ماذا ومن لديه اختراعات أصيلة تستحق الوراثة، الأمر له علاقة بالإخلاص والإحسان، أنا لم أخلص لأي شيء لدرجة إحسانه، ولم أحسن أي شيء لدرجة توريثه!

 

جدتي لأمي كانت توزع في الجنائز والأعياد أرغفة من الخبز محشوة باللحم والأرز، وكنا نجلس جميعًا على سفرتها الخشبية القديمة، نضع الأرز واللحم ونلفهما بشكل محكم حتى يصلا لأصحابهما، وكانت تصنع القُرَص السادة في المواسم وعلى أرواح الموتى، وهي تعتقد أن هذ القرص تصل إلى أرواحهم رحمة ونورًا، الأمر يبدو بسيطًا، ويبدو من بعض الزوايا محض خرافات أيضًا، ولكنه يبدو بالنسبة لي قوة خالصة كانت تحارب بها جدتي أشباح الموت، وتعبر عن الحب بمنتهى الجدية والإخلاص.

 

التريندات العالمية تحارب الطقوس، وتسميها بالخرافات، ولكنها في الحقيقة تخلق منا مسوخًا. السوشيال ميديا تسخر من طقوس البشر وعاداتهم وتدعو لتكسير التابوهات، ولكن العالم في الحقيقة إذا توحَّد على اللا طقوس سيبدو باهتًا، شاحبًا، قبيحًا، عديم الملامح.

 

صحيح أقول “إنني امرأة تحب الطقوس”، ولكنهما حقيقتين، وليست حقيقة واحدة. فبجانب شِق حب الطقوس، أنا امرأة. لم أعد فتاة في بيت أبيها تنتظر طقسه المبهج بالتكبير والعيدية والخروج، ويبدو أنه لو كان ثمة تحدٍ يجب أن أخوضه الأيام القادمة، فهو أن أتحلى بشجاعة وإيمان كافيين، لأضع طقوسي الخاصة وأحترمها. الأمر ليس خارقًا ولا سريًا، وفي جوهره يكمن في أدق التفاصيل بساطة، في الأغنية التي أغنيها لابنتي كل صباح، في الكيكة التي أخبزها بعد كل مرة ننظف الشقة، في البخور الذي أشعله في الأيام الباردة، في الملايات الجديدة التي أكافئ بها الأسِرَّة بعد أدوار المرض والليالي الصعبة، في الحضن الجماعي الذي نبدأ به الصباح، في أحمر الشفاه الذي أضعه عندما أنجز مهمة صعبة، في طلاء الأظافر الذي أضعه مع ابنتي بعد الاستحمام، في الوجبة التي أعدها للأطفال قبل أن يشعروا بالجوع، في العسل الذي أضعه في البصل وأنا أكرمله لصينية لحم لا يعرف عن سُكرها أحد، السحر يبدأ من كل هذه التفاصيل.. وأصغر.. وأصغر.

المقالة السابقة“أزمة منتصف العمر”.. حائرات في منتصف الطريق
المقالة القادمةسحر البساطة والتمكين في حياة “جليلة”
كاتبة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا